شبهات و ردود

لماذا هاجر الحسين (عليه السّلام) من المدينة ؟
قوله عزّ مَنْ قائل : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا } [النساء: 97 - 99].
الهجرة لغة : عبارة عن ترك بلد الإقامة إلى غيره والانتقال من الوطن لآخر .
وهي تارة تكون واجبة واُخرى تكون مباحة وربّما تكون محرّمة حسب اختلاف الغاية من الهجرة والنتائج المترتّبة عليها ؛ مِنْ باب أنّ المقدّمة تتبع لديها في الحكم الشرعي . فإذا كانت الهجرة لغرض طلب علم ضروري أو أداء واجب أو التخلّص مِن ارتكاب محرّم فالهجرة حينئذ واجبة وتركها يوجب اللوم والعقاب كما في الآية الكريمة السابقة ؛ حيث نزلت في لوم جماعة من المسلمين الذين تخلّفوا عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مكّة ولمْ يهاجروا إلى المدينة فكانوا مضطهدين في مكّة مِنْ قبل قريش في أنفسهم ودينهم بعيدين عن معرفة الأحكام والآيات التي كانت تنزل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) جاهلين بشرائع الإسلام وتفاصيله فكانوا بذلك مقصّرين ومعاقبين حسب صريح الآية الكريمة السابقة .
وهذا الحكم سارِ المفعول بالنسبة إلى كلّ مسلم يعيش في بلد يُضطهد فيه ولا يسعه القيام بواجباته ومسؤولياته ولا يحصل فيه على حقوقه المشروعة فإنّ الواجب عليه أنْ يهاجر إلى حيث العلم والأمان والحرية الدينية وإلاّ فهو من الأعراب المذمومين في الكتاب والسنة ؛ لأنّ الأعرابي في المصطلح الشرعي هو : كلّ مَنْ يعيش في بلد جاهلاً لا يمكنه فيه التعلّم والعمل الصالح وقيامه بمسؤولياته الشخصية والاجتماعية ... .
قال تعالى : {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ...} [الحجرات: 14]
[ وقال تعالى : ] {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [التوبة: 97] .
وفي الحديث الشريف : ستة أصناف من الناس يدخلون النار بست خصال : الأمراء بالجور والعلماء بالحسد والتجّار بالخيانة والدهّاقين بالكبر وأهل الرساتيق بالعصبية والأعراب بالجهل .
والجهل لا يرفع المسؤوليّة عن الإنسان إلاّ إذا كان قاصراً عن المعرفة أي عاجزاً عنها حقيقة وواقعاً كالذين استثنوا في الآية الكريمة بقوله تعالى : {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 98، 99].
الواجبُ والحرام مِنْ أقسام الهجرة :
وإذا كانت الهجرة لعكس الغرض السابق أي لأجل القيام بعمل محرّم مِنْ ظلم أو غصب أو ما شاكل ذلك أو أنْ يعلم بأنّ هجرته إلى ذلك البلد تفوّت عليه واجباً ويضيّق عليه هناك في عقيدته ودينه فالهجرة حينئذ تكون محرّمة بل مجرّد السفر المؤقّت لأمثال هذه الغايات الفاسدة يكون حراماً مثل : السفر للصيد لهواً أو في ركاب ظالم وما أشبه ذلك وهو معبّر عنه في عرف الفقهاء بسفر المعصية .
وإذا كانت الهجرة لأمر راجح مثل التجارة المباحة والتوسّع في طلب العلم وزيارة المشاهد المقدّسة والحجّ المندوب فالهجرة مستحبّة والسفر في هذه الغايات أيضاً مستحب . وإذا كانت لأمر مرجوح شرعاً تكون الهجرة مكروهة كالانتقال من المدينة إلى القرية ومن البلد إلى البادية حيث لا تتوفّر فيها وسائل السعادة والراحة .
وفي النهي عن هكذا هجرة يوصي أمير المؤمنين (عليه السّلام) ولده الحسن (عليه السّلام) في وصيته الكبيرة قائلاً : يا بني واسكن الأمصار العظام .
أي المدن الواسعة الكبيرة ؛ لأنّها أجمع للوازم الحياة السعيدة ووسائل الراحة .
وقد أكدّ الإمام الصادق (عليه السّلام) ذلك في الخبر الوارد عنه حيث يقول فيه : لا يستغني أهل كلّ بلد عن ثلاث : فقيه ورع وطبيب حاذق وحاكم عادل وإنْ عدموا ذلك فهم همج رعاع . أي لا يشعرون بالكرامة الإنسانية ولا يتمتعون بلذّة الحياة .
فالفقيه : للتوجيه والتعليم والحاكم : للتنفيذ وإقامة النظام والطبيب : للوقاية والعلاج من الأمراض . وهذه النواحي الثلاثة هي دعائم الحياة السعيدة والسعادة الاجتماعية ؛ العلم والصحة والأمان .
هجرةُ الأنبياء ورجال الإصلاح :
فالخلاصة أنّ الهجرة من المواضيع التي تخضع لكافة الأحكام الإسلاميّة الخمس : الوجوب والحرمة والندب والكراهة والإباحة حسب ما ينتج منها مِنْ نتائج .
وبعد هذا العرض الموجز للهجرة ككلّ نأتي إلى هجرة الأنبياء (صلّى الله عليهم أجمعين) ؛ لأنّنا نجد الهجرة تكاد أنْ تكون ظاهرة ملازمة لحياتهم الرسالية فقلّ أنْ نجد نبيّاً لمْ يهاجر مِنْ بلد إلى بلد ولمْ ينتقل مِنْ محيط إلى آخر .
فهذا خليل الرحمن إبراهيم (عليه السّلام) بُعث في العراق ثمّ هاجر إلى مصر ثمّ انتقل إلى الشام وفلسطين واستقر بها إلى أنْ مات ثمّ مِنْ بعده يعقوب وأولاده ثمّ موسى الكليم هاجر مِنْ مصر إلى مدين ثمّ عاد إليها ثمّ هاجر نحو الشام .
وهذا عيسى (عليه السّلام) بن مريم كان لا يستقر في بلد حتّى لقّب بالمسيح وأخيراً خاتم الأنبياء محمد (صلّى الله عليه وآله) هاجر مِنْ مكّة أوّلاً إلى الطائف ثمّ هاجر إلى المدينة واستقر بها إلى أنْ قُبض . ثمّ هاجر وصيّه وخليفته علي (عليه السّلام) من المدينة إلى الكوفة . فالهجرة إذاً ظاهرة مألوفة في حياة الأنبياء والمرسلين والمصلحين فلماذا هاجر هؤلاء ؟ ومِنْ أيّ قسم مِنْ أقسام الهجرة كانت هجرتهم ؟
طبعاً وبدون شك أنّ هجرة الأنبياء كانت واجبة ومفروضة عليهم من الله سبحانه ؛ تمشيّاً منهم مع متطلبات رسالته حيث كانوا لا يجدون القدرة الكافية في أوطانهم على تبليغ رسالاتهم ؛ نظراً للعراقيل والعقبات التي وضعها المعارضون في طريقهم ؛ ولما كان يتهدّدهم مِنْ خطر القتل على أيدي أعدائهم قبل أداء وتبليغ دعوتهم ؛ لذا كان لازماً عليهم أنْ يتركوا الأوطان إلى بلاد اُخرى يستطيعون فيها القيام بمسؤولياتهم .
سيرةُ الحسين (عليه السّلام) امتداد لسيرة الأنبياء :
والحسين (عليه السّلام) وإنْ لمْ يكن نبيّاً إلاّ أنّه قام بمهام الأنبياء وصبر كما صبر اُولو العزم من الرسل . ومسؤوليته امتداد لمسؤوليّة جدّه وأبيه حيث أُنيطت به مسؤوليّة أداء رسالة الإسلام وصيانتها مِنْ كلّ زيف وتحريف كما صرّح هو (عليه السّلام) على تحمّله لهذه المسؤوليّة بقوله في عهده لأخيه محمد بن الحنفية : وإنّي لمْ أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي محمد (صلّى الله عليه وآله) ؛ اُريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي .
فهو إذاً شعر بأنّه مسؤول عن أنْ يسير بسيرة جدّه المصطفى وأبيه علي المرتضى فهاجر (عليه السّلام) من المدينة فراراً مِنْ كيد آل أبي سفيان ومؤامراتهم ضدّه تماماً كما هاجر جدّه محمد (صلّى الله عليه وآله) قبله بستّين عاماً مِنْ مكّة فراراً مِنْ كيد أبي سفيان وحزبه .
[ إنّ ] السبب في الهجرتين واحد والغاية واحدة ؛ فالنبي (صلّى الله عليه وآله) هاجر خوفاً من القتل المحتّم الذي كان ملاقيه لو لمْ يهاجر وذلك على يد أربعين رجلاً مِنْ قريش بتدبير مِنْ أبي سفيان وحزبه الذين عزموا على قتل محمد (صلّى الله عليه وآله) تلك الليلة المعبّر عنها بـ (ليلة الهجرة) بقصد قتل الرسالة الإسلاميّة في مهدها ومنع انتشارها .
التشابهُ بين هجرة الحسين (عليه السّلام) وهجرة جدّه محمد (صلّى الله عليه وآله) :
كذلك الحسين (عليه السّلام) هاجر من المدينة ليلاً ؛ خوفاً مِنْ أنْ يُقتل على يد أعوان وعمّال يزيد الذي أرسل أوامره المشدّدة إلى واليه على المدينة يأمره بقتل الحسين (عليه السّلام) فوراً وبدون تردّد وإرسال رأسه إليه إنْ هو لمْ يبايع ؛ وذلك أيضاً لخنق صوت المعارضة في مهدها ومنعها من الانتشار .
وكما أنّ هجرة محمد (صلّى الله عليه وآله) أنتجت توسعّاً كبيراً في الرسالة المحمّدية في أنحاء الجزيرة العربية وبلغ صداها إلى أنحاء اُخرى من العالم وبعدها ببضع سنوات فقط انهارت زعامة أبي سفيان تماماً بفتح مكّة كذلك كانت هجرة الحسين (عليه السّلام) ؛ فإنّها كسرت الحصار الذي ضربه آل أبي سفيان حول المعارضة الحسينية فعلا صوتها وبلغ صداها إلى أنحاء العالم الإسلامي .
وما مضت عليها إلاّ بضع سنوات حتّى انهار سلطان آل أبي سفيان وتقوّضت أركان الدولة السفيانية انهياراً كلّيّاً بموت معاوية الثاني بعد ثلاثة أشهر مِنْ موت يزيد ثمّ قامت على أنقاضها دولة مروانية بقيادة مروان بن الحكم . وكلّ ذلك بعد هجرة الحسين (عليه السّلام) بأقل مِنْ خمس سنوات .
حقاً ما أقرب الشبه وأشدّ التطابق والتقارب بين الهجرتين في العوامل والثمرات بل وحتّى في الحالات النفسية ؛ فليلة الهجرة كانت أشدّ ليلة على النبي (صلّى الله عليه وآله) مرّت في حياته مِنْ حيث الهموم والأفكار والقلق النفسي حتّى أنزل الله تعالى عليه سكينته وهو في الغار حسب صريح الآية الكريمة : {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 40].
وكذلك الحسين (عليه السّلام) حيث يصف الواصفون أنّ ليلة هجرته من المدينة كانت أشدّ الليالي عليه في حياته ؛ لما كان يعانيه تلك الليلة من الحيرة والقلق والتفكير في المستقبل والمصير ؛ لذا كان (عليه السّلام) يتردّد على حرم جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يناجي ربّه ويشكو إلى جدّه ما يعانيه ويقول في مناجاته مع الله سبحانه بعد أنْ صلّى ركعات في الحرم ثمّ رفع طرفه نحو السماء وقال : اللّهمَّ إنّ هذا قبر نبيّك محمد (صلّى الله عليه وآله) وأنا ابن بنت نبيك وقد حضرني من الأمر ما قد علمت . اللّهمَّ إنّي اُحبّ المعروف وأنكر المنكر وأسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ القبر ومَنْ فيه إلاّ اخترت لي ما هو لك رضا ولرسولك رضا .
ثمّ بكى (عليه السّلام) ووضع رأسه على قبر جدّه وقال : يا رسول الله أنا الحسين بن فاطمة فرخك وابن فرختك وسبطك الذي خلّفتني في اُمّتك فاشهد عليهم يا نبي الله أنّهم قد خذلوني وضيّعوني ولمْ يحفظوني وهذه شكواي إليك حتّى ألقاك .
قالوا : وغفت عينا الحسين (عليه السّلام) ورأسه على قبر النبي (صلّى الله عليه وآله) فرأى جدّه رسول الله في كتيبة من الملائكة عن يمينه وشماله وبين يده فضم الحسين إلى صدره وقبّله ما بين عينيه وقال له : حبيبي يا حسين كأنّي أراك عن قريب مرمّلاً بدمائك مذبوحاً بأرض كرب وبلاء بين عصابة مِنْ اُمّتي وأنت مع ذلك عطشان لا تسقى وظمآن لا تُروى وهم بعد ذلك يرجون شفاعتي ! لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة . حبيبي يا حسين إنّ أباك واُمّك وأخاك قدموا عليّ وهم مشتاقون إليك .
فبكى الحسين (عليه السّلام) في منامه وقال : يا جدّاه خذني معك وأدخلني في قبرك فلا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا .
ضـمّني عـندك يا جداه في هذا الضريحْ عـلّني يا جدّي مِنْ بلوى زماني أستريحْ
ضاقَ بي يا جدُّ مِنْ رحب الفضا كلُّ فسيحْ فـعسى طـود الأسـى يندكّ بين الدكّتينْ
فقال له الرسول (صلّى الله عليه وآله) : يا بُني لا بدّ لك من الرجوع إلى الدنيا حتّى تُرزق الشهادة ؛ لتنال ما قد كتبه الله لك من الأجر والثواب العظيم .
فانتبه الحسين (عليه السّلام) وقصّ رؤياه على أهل بيته فاشتدّ حزنهم وكثر بكاؤهم حتّى ورد عن سكينة بنت الحسين (عليها السّلام) قالت : لمْ يكن في شرق الأرض وغربها أهل بيت أشدّ خوفاً وهمّاً وغمّاً منّا آل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
ولله در السيّد حيدر الحلّي حيث قال :
مِـنْ أيـنَ تـخجلُ أوجه اُمويّة سـكبتْ بـلذّاتِ الفجورِ حياءَها
مـا بـلَّ أوجُهها الحيا ولو انَّها قِـطعُ الـصفا بلَّ الحيا مَلساءَها
قهرتْ بني الزهراءَ في سلطانِها واسـتأصلتْ بصفاحِها اُمراءَها
مـلكتْ عليها الأمر حتّى حرّمت في الأرضِ مطرح جنبها وثوائها
ضاقت بها الدنيا فحيثُ توجهتْ رأتِ الـحتوفَ أمامها ووراءَها
فاستوطنتْ ظهرَ الحِمامِ وحوّلتْ لـلعزّ عن ظهرِ الهوانِ وطاءَها
لماذا حمل الحسين (عليه السّلام) عياله وأطفاله في هجرته الثوريّة ؟
في نهضة الحسين (عليه السّلام) نقاط استفهام كثيرة لدى شبابنا اليوم ؛ لأنّها نهضة فريدة مِنْ نوعها وغريبة في مظاهرها حسب مظهرها الخارجي .
هذا ولا يسعهم تفسيرها بأعمال تهوّريّة عاطفية وحملها على خلّوها من الحكمة والمصلحة لا يسعهم ذلك طبعاً ؛ لأنّ الذي قام بها رجل أقل ما يُقال فيه أنّه شخصية علميّة كبيرة خالدة ذو حكمة ودهاء استطاع بحكمته وسياسته أنْ يؤثر في مجرى التاريخ الإسلامي ويخلّد لنفسه ذكراً رفيعاً واسعاً عبر القرون والأجيال ؛ هذا فضلاً عن كونه إمام معصوم من الخطأ والغلط حسب النصوص النبويّة الشريفة . فإذاً لا بد أنْ تكون هناك حكمة وراء تلك التصرّفات وهي كذلك بالفعل .
وها نحن نتعرّض لأهم تلك النقاط بالبحث والتحليل ؛ لنوقف أبناء جيلنا الأعزاء على أسرار تلك الثورة المقدّسة والتضحية المثالية رجاء أنْ يتأثروا بها ويستوحوا مبادئها وأهدافها ويسيروا على أضوائها وهديها المبارك إنْ شاء الله تعالى .
تحدّثنا في الفصول السابقة عن أوّل حلقة في سلسلة الحركة الحسينية وهي : لماذا عارض الحسين (عليه السّلام) خلافة يزيد وأعلن العصيان والخلاف على حكومة الاُمويِّين القويّة المسيطرة بكلّ وسائل القوّة والقدرة ؟ أعلن ذلك بامتناعه من البيعة ليزيد بن معاوية رغم ضعفه (عليه السّلام) ماديّاً وعسكريّاً إلى أقصى حدود الضعف .
وتحدّثنا أخيراً حول الحلقة الثانية في تلك السلسلة وهي : لماذا ترك الحسين (عليه السّلام) مدينة جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهاجر عنها وهو أشرف إنسان فيها وأعزّ فرد على أهلها؟
والآن نبدأ بالحديث عن ثالث نقاط الاستفهام والسؤال حولها وهو : لماذا حمل الحسين (عليه السّلام) معه النساء والعائلة والأطفال وهو خارج في معارضة دولة ومكافحة حكومة فعرّض تلك العقائل للأسر والسبي والتشريد وغير ذلك ؟
والجواب عن هذا السؤال : هو أنّ الحسين (عليه السّلام) حامل رسالة هو مسؤول عنها وعليه أنْ يؤدّيها إلى العالم الإسلامي وخرج من المدينة لهذه الغاية فلو كان قد ترك العائلة في المدينة لعرّض تلك العقائل لخطر الأسر والسبي مِنْ قبل الاُمويِّين .
ومعلوم أنّ الرجل الغيور لا يسعه الصبر مهما كان وهو يرى عائلته في أسر العدو فلا بدّ له حينئذ أنْ يستسلم للعدو لأجل إنقاذ عياله وقد كان مِنْ صور الإرهاب في سياسة الاُمويِّين أنّه إذا هرب رجل مِنْ قبضتهم يلقون القبض على نسائه وعائلته حتّى يضطر فيسلّم نفسه إليهم كما فعلوا بزوجة عمرو بن الحمق الخزاعي لمّا هرب من الكوفة عندما طلبه زياد ليقتله فكتب معاوية إليه : أنْ احمل إليّ زوجته .
فألقى زياد زوجته آمنة بنت رشيد (رحمها الله) وحملها أسيرة إلى معاوية فأمر بها إلى السجن فسجنت حتّى جيء برأس زوجها عمرو إلى الشام بعد أنْ أُلقي القبض عليه في غار قرب الموصل مِنْ قبل والي معاوية عليها وطعن بتسع طعنات ثمّ قطع رأسه وحمل على قناة إلى معاوية في الشام .
فقال معاوية للحرسي : انطلق بهذا الرأس وضعه في حجر زوجته آمنة واحفظ ما تقول . فلمْ تشعر وهي في السجن إلاّ ورأس زوجها عمرو في حجرها فضمته إلى صدرها وبكت وقالت : غيبتموه عنّي طويلاً وأهديتموه إليّ قتيلاً ! فأهلاً وسهلاً بها مِنْ هدية غير قالية ولا مقلية . ثمّ قالت للحرسي : أبلغ معاوية عنّي ما أقول وقل له : أيتم الله ولدك وأوحش منك أهلك ولا غفر لك ذنبك وعجّل لك الويل مِنْ نقمه وطلب منك بدمه ؛ فلقد جئت شيئاً فريّاً وقتلت بارّاً تقيّاً . فلما سمع كلامها أمر بإحضارها في المجلس فاُحضرت وصار يشتمها ويتهدّدها .
وكما فعلوا بزوجة المختار بن أبي عبيدة الثقفي لمّا هرب مِنْ سجن ابن زياد ، فألقى القبض على زوجته وزجها في السجن إلى أنْ اجتمع قومها عنده وتشفعوا فيها فأطلقها .
والشواهد التاريخية على هذه السياسة اللاإنسانية عند الاُمويِّين وأتباعهم كثيرة جداً والحسين كان يعرفها منهم تماماً ويعلم يقيناً أنّه بمجرد أنْ يخرج من المدينة في اليوم التالي يلقي الأمويون القبض على عقائل الرسالة ويحملوهنّ سبايا إلى يزيد في الشام فكيف يستطيع الحسين (عليه السّلام) حينئذ أنْ يؤدّي رسالته ويستمر في معارضته وثورته ؟ حتماً كان لا يسعه ذلك ابداًَ .
فالسبي لا بدّ منه لتلك العقائل سواء أخذهنّ معه أو أبقاهنّ فلِمَ لا يأخذهنّ معه ليؤمنَ الضغط عليه مِنْ جهتهنّ ويؤدّي رسالته بحرية واطمئنان ويدافع عنهنّ ما دام فيه عرق ينبض ؟! وهكذا كان فإذا قُتل فلقد قضى ما عليه ويبقى ما عليهنّ .
هذا أحد وجوه الحكمة في عمله هذا . والوجه الآخر الذي لا يقلّ دلالة على بعد نظر الحسين (عليه السّلام) وعمق حكمته هو : أنّ الحسين (عليه السّلام) يعرف أنّه إذا قُتل لا يوجد رجل في العالم الإسلامي يمكنه أنْ يتكلّم بشيء ضدّ سياسة الأمويِّين مهما كان عظيماًَ ؛ حيث إنّهم قطعوا الألسن وكمّوا الأفواه فكان قتله يذهب سدى وقد لا يعرف أحد من المسلمين ما جرى عليه ؛ حيث إنّ وسائل الإعلام كلّها كانت محصورة بأيدي الدولة ؛ منْ شعراء وخطباء ورواة وقصاصين .
وفعلاً كان أُناس يعيشون في الكوفة ولا يعلمون بما جرى ومَنْ تكلّم بشيء فمصيره القتل كما فعل بهاني بن عروة وعبد الله بن عفيف الأزدي . فأراد الحسين (عليه السّلام) أنْ يحمل معه ألسنة ناطقة بعد قتله ؛ لتنشر أنباء تلك التضحية في العالم الإسلامي ومذياعاً سيّاراً يذيع تفاصيل تلك المأساة الإنسانية والجرائم الوحشية فلمْ يجد سوى تلك المخدّرات والعقائل ـ اللواتي سُبينَ وسُيّرنَ بعد الحسين في ركب فظيع مؤلم يجوب الأقطار ـ يلقينَ الخطب في الجماهير وينشرنَ الوعي بين المسلمين وينبّهنَ الغافلين ويلفتنَ أنظار المخدوعين ويفضحنَ الدعايات المضللة حتّى ساد الوعي وتنبّه الناس إلى فظاعة الجريمة وانهالت الاعتراضات والانتقادات على يزيد والاُمويِّين مِنْ كلّ الفئات والجهات وبات يزيد يخشى الانفجار والانقلاب حتّى في عاصمة دولته الشام وصار يظهر التنصل والندم ويلقي التبعة واللوم على ابن زياد وأخيراً اضطر أنْ يغيّر سياسته تجاه أهل البيت (عليهم السّلام) فأحسن إليهم وأكرمهم وصار يتطلّب عفوهم ومرضاتهم بالأموال وغيرها .
كلّ ذلك بفضل الخطب والبيانات التي صدرت مِنْ تلك العقائل في المجالس والمجتمعات وبفضل المظاهر المشجّية التي سار بها ركب السبايا مِنْ بلد إلى بلد ومِنْ مجلس إلى مجلس مما جعل الرأي العام يعطف على قضية أهل البيت (عليهم السّلام) ويشجب جرائم أعدائهم فكان في ذلك نصراًً كبيراً لحق آل محمد ونشراًَ للتشيّع لهم في العالم .
فالواقع الذي يجب أنْ نؤكده هو أنّ زينب العقيلة شريكة أخيها الحسين (عليه السّلام) في ثورته سواء بمؤازرتها له في حياته أو بقيامها بمسؤوليّة الدعوة والتوعية بعد شهادته فلولا سبي النساء لكانت ثورة الحسين عقيمة الأثر لا تذكر إلاّ في بطون بعض كتب التاريخ كنبأ بسيط مشوّه عن حقيقته تمام التشويه كما شوّه التاريخ قضايا كثيرة هامّة جداً ؛ لأنّها لمْ تحصل على القدر الكافي من النشر والبيان والتعقيب مثل حادثة يوم غدير خم وقد بلغ مِنْ أثر الإهمال والإخفاء لواقعة غدير خم أنّ بعض الكتّاب يذكرها بأنّها واقعة مِنْ وقائع العرب في الجاهليّة .
أجل هكذا يضيع الحقّ ويخفى الواقع إذا لمْ تتوفر له الدعوة الكافية كقضايا وفاة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وما جرى على ابنته فاطمة وآل البيت بعد وفاته مِنْ غصب وهضم للحقوق واعتداء على الحرمات والكرامات . . . وغيرها .
وبعد أنْ تبينا هذين الوجهين مِنْ وجوه الحكمة في حمل الحسين (عليه السّلام) للعيال معه نختم هذا الفصل بذكر هذا الوجه الثالث وهو لا يقلّ أهمية عن الوجهين السابقين ألا وهو : الحفاظ على حياة الإمام زين العابدين (عليه السّلام) إذ لا شك في أنّه لولا وجود العقيلة زينب (عليها السّلام) لقُتل زين العابدين بعد قتل الحسين (عليه السّلام) حتماً ؛ حيث تعرّض الإمام (عليه السّلام) للقتل مرّتين :
المرّة الأولى : يوم عاشوراء لمّا هجم الأعداء على مخيّم الحسين (عليه السّلام) ودخل الشمر على زين العابدين وهو مريض لا يفيق مِنْ شدّة المرض فجذب النطع مِنْ تحته وقلبه على وجهه ثمّ جرّد السيف ليقتله فانكبت عليه عمّته زينب (عليها السّلام) واعتنقته وصاحت : إنْ أردتم قتله فاقتلوني قبله .
وبينما هي كذلك إذ دخل عمر بن سعد الخيمة فلمّا نظر إلى العقيلة زينب منكبّة عليه قال للشمر : دعه لها ؛ فإنّه لما به . فتركه .
والمرة الثانية : في مجلس عبيد الله بن زياد لمّا نظر إلى الإمام (عليه السّلام) وقال له : مَنْ أنت ؟ قال : أنا علي بن الحسين . قال اللعين : أوَ ليس قد قتل الله عليّاً ؟ فقال الإمام (عليه السّلام) : كان لي أخ أكبر منّي يسمّى علياً قتله الناس يوم كربلاء . فقال ابن زياد : بل الله قتله . فقال الإمام (عليه السّلام) : اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا .
فغضب ابن زياد وقال : أوَبك جرأة على ردّ جوابي ! غلمان جرّوا ابن الخارجي واضربوا عنقه . فقامت الجلاوزة وسحبوا الإمام إلى القتل فقامت العقيلة زينب (عليها السّلام) ورمت بنفسها عليه وصاحت : يابن زياد حسبك مِنْ دمائنا ما سفك فاترك لنا هذا العليل وإنْ كنت قد أردت قتله فاقتلني قبله .
قالوا : فنظر إليها ابن زياد وقال : عجباً للرحم ! إنّها والله لتودّ أنْ تُقتل دونه فاتركوه لها ؛ فإنّه لما به . فتركوه .
فإنْ قلت : لماذا أخرج الحسين (عليه السّلام) ابنه زين العابدين معه وهو مريض عليل ؟ قلت : إنّ زين العابدين (عليه السّلام) لمْ يكن مريضاً عند خروجه من المدينة ولا مِنْ مكّة ولا في أثناء الطريق وإنّما بدأ فيه المرض لمّا نزلوا أرض كربلاء وأخذ المرض يتزايد فيه حتّى بلغ معه إلى أقصى شدّته يوم عاشوراء وفي ذلك عناية خاصّة من الله تعالى وهي : أنْ لا تبقى الأرض خالية من الإمام ؛ إذ لولا مرضه (عليه السّلام) لكان الواجب يفرض عليه الدفاع عن أبيه الحسين (عليه السّلام) والاستشهاد بين يديه .
والخلاصة : إنّ في حمل العيال وإخراج النساء معه مصالح وحكم وتلك بعضها أو أهمها وقد أشار الحسين (عليه السّلام) إلى تلك المصالح والحكم بكلمته الإجمالية المعروفة : قد شاء الله أنْ يراهنّ سبايا .
وهو جواب مقتضب ولمْ يشأ في تلك الساعة أنْ يُفصح عن الهدف ؛ لئلاّ يستفيد الخصم مِنْ كلامه فيكون ذلك حائلاً دون الوصول بالثورة إلى أهدافها .
قالها للذين سألوه : ما معنى حملك لهذه النسوة ؟ فاشاءة الله تعلّقت بإحياء دينه وحفظ قرآنه وإبقاء شريعته .
ولمّا لمْ تكن هناك وسائل طبيعية لهذه الغاية سوى استشهاد الحسين وصحبه وسبي زينب (عليها السّلام) وأخواتها ؛ لذا فقد تعلّقت إرادته سبحانه عرضاً بقتل الحسين وسبي النساء تماماً كما قال الحسين (عليه السّلام) : لقد شاء الله أنْ يراني قتيلاً وقد شاء الله أنْ يراهن سبايا .
ولنعم ما قاله بعض الأدباء :
وتشاطرتْ هي والحسينُ بنهضة حـتمَ الـقضاءُ عليهما أنْ يندبا
هـذا بـمعترك الـرماحِ وهـذهِ في حيث معتركِ المكارهِ في السبا
ولذلك نجد الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) اشترط على زوج العقيلة زينب وهو ابن أخيه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لما زوجه بابنته زينب اشترط عليه شرطاً ضمن العقد أنْ لا يمنعها من الخروج مع أخيها الحسين (عليه السّلام) إلى العراق . وهذا يكشف عن مدى بُعد النظر وسعة علم الإمام (عليه السّلام) بما سيجري وبالمصالح التي تترتّب على مشاركة زينب للحسين في ثورته .
ولمْ تزل تلك العقائل بعد الحسين وعلى رأسهنّ زينب (عليها السّلام) يؤلّبنَ النفوس ضدّ الحكم الاُموي الغاشم ويهيّجنَ الرأي العام ضدّ يزيد بن معاوية ؛ وذلك بعقد المجالس وبالندبة وتعداد الجرائم والموبقات التي صدرت من الفئة الحاكمة تجاه آل الرسول حتّى ضاق يزيد ذرعاً بهنّ .
وأمر بإبعاد العقيلة زينب مِنْ مدينة جدّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فأبعدوها إلى مصر على أشهر الأقوال فعاشت في مصر مدّة حياتها بعد الحسين (عليه السّلام) نادبة باكية داعية إلى الحقّ حتّى التحقت بأخيها ودُفنت هناك ؛ فكانت أوّل لاحقة بالحسين (عليه السّلام) مِنْ أهل بيته . فسلام عليها يوم ولدت ويوم شاركت في أقدس ثورة ويوم توفيت مناضلة بطلة ويوم تبعث إلى الله لتشكو إليه ظلم الاُمّة وغدرها وانقلابهم على الأعقاب .
وفي الختام : نسأل الباري (جلّ شأنه) أنْ يتغمّد شيخنا العلاّمة الأصفهاني بواسع رحمته حيث يقول في اُرجوزة له في العقيلة الكبرى (عليها السّلام) :
مـلـيكةُ الـدنيا عقيلةُ النسا عديلةُ الخامسِ مِنْ أهلِ الكسا
شـريكةُ الشهيدِ في مصائبِهْ كـفـيلةُ الـسجّادِ في نوائبِهْ
بلْ هي ناموسُ رواق العظمهْ سـيـدةُ الـعـقائلِ المعظّمهْ
اُمُّ الـكتابِ في جوامعِ العُلا اُمُّ الـمصابِ في مجامعِ البلا
رضيعةُ الوحي شقيقةُ الهدى ربـيبةُ الفضلِ حليفةُ الندى
ربّـةُ خدرِ القدسِ والطهارهْ في الصونِ والعفافِ والخفارهْ
مـا ورثـتهُ مِنْ نبي الرحمهْ جـوامعُ العلمِ اُصولُ الحكمهْ
ســرّ أبـيها في علوِّ الهمّه والـصبرُ في الشدائدِ الملمّه
بـيـانُـها يفصحُ عن بيانِه كـأنّـها تُـفـرغُ عن لسانِه
فـإنّـهـا ولـيدةُ الفصاحه والـدها فـارسُ تلك الساحه
و مـا أصابَ اُمَّها من البلا فـهـو تُـراثُها بطفِّ كربلا
لـكـنّها عـظـيمة بلواها من الخطوبِ شاهدتْ أدهاها
و ما رأتْ بالطفِّ مِنْ أهوالِها جلّ عن الوصفِ بيانُ حالها
وسـوقُها إلى يزيد الطاغيه أشجى فجيعة و أدهى داهيه
أمـامُها رأسُ الإمامِ الزاكي وخـلـفُـها النوائحُ البواكي
أتـوقفُ الحرّةُ مِنْ آل العبا بـينَ يدي طليقِها وا عـجبا
وقد أبانتْ كفرَ ذاك الطاغي بـأحـسنِ الـبيانِ والبلاغِ
حـنّتْ بقلب موجع محترقِ عـلى أخـيها فأجابَها الشقي
( ياصيحةً تحمُدُ مِنْ صوائحِ وأهـونَ النوحُ على النوائحِ)
لماذا توجّه الحسين (عليه السّلام) بهجرته في البداية إلى مكّة المكرّمة ؟
قوله تعالى : {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22].
هذه الآية الكريمة تمثّل بها الحسين (عليه السّلام) عندما دخل إلى مكّة مهاجراً مِنْ مدينة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وذلك في الخامس مِنْ شعبان سنة ( 60 ) من الهجرة وتوجّه الحسين (عليه السّلام) بنهضته المباركة إلى مكّة وحلوله فيها أمر معقول ومشروع للغاية يقرّه الشرع والعرف السياسي .
أمّا من الناحية الشرعية فإنّه يجب على الإنسان أنْ يحلّ بلداً يمكنه فيه القيام بواجباته مع الحفاظ على حياته ما أمكن . ومكّة المكرّمة هي البلد الوحيد في ذلك اليوم الذي يتمكّن فيه الحسين (عليه السّلام) الجمع بين هذين الأمرين معاً ؛ لأنّه حرم مقدّس ومأمن لكلّ شيء حتّى الحيوان والطير والنبات ؛ بنص الكتاب العزيز : ( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ) . حتّى قاتل النفس المحرّمة إذا دخل مكّة آمن على حياته من القصاص . نعم يُضيّق عليه حتّى يخرج عنها ثمّ يُقتص منه .
وأمّا من الناحية السياسية فإنّ الحسين (عليه السّلام) قائم بثورة فكريّة إصلاحيّة وهي بحاجة إلى إعلام ودعوة وأنصار . ولا شكّ أنّ مكّة يومئذ أنسب بلد للقيام بذلك كلّه ؛ لأنّها مختلف الناس وممرّ المسلمين مِنْ جميع الأقطار وكلّ حدث يحدث في مكّة ينعكس صداه فوراً في كافة الأقطار الإسلاميّة وتسير به الركبان إلى جميع العالم الإسلامي وكلّ دعوة تنبثق في مكّة سرعان ما تصل إلى أسماع المسلمين في كلّ مكان .
وفعلاً استطاع الحسين (عليه السّلام) بفضل إقامته في مكّة أنْ يبلغ أنباء ثورته على الحكم الاُموي إلى أكثر الأقطار ويتّصل بكثير من الوجوه والزعماء والوفود ؛ ولذا فقد اجتمع له في خلال تلك المدّة بين الستة آلاف والعشرة آلاف رجل وهم الذين تفرّقوا عنه أثناء الطريق عندما ظهر لهم غدر أهل الكوفة بالحسين (عليه السّلام) وفي خلال تلك المدّة تسلّم اثني عشر ألف كتاب دعوة مِنْ أهل العراق بالتوجّه إليهم .
وعلى كلّ حال كان في إقامة الحسين (عليه السّلام) في مكّة المكرّمة دعماً كبيراً لقضيته وإعلاناً واسعاً عن ثورته ولكنّ الذي حدث بعد ذلك وجعل الحسين يضطرّ إلى الخروج مِنْ مكّة بكلّ سرعة واستعجال هو : أنّ الاُمويِّين قرّروا هتك حرمة مكّة وانتهاك كرامتها وصمّموا على قتل الحسين فيها ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة .
واتّخذوا لذلك جميع الإجراءات ؛ فبعث يزيد جيشاً يتألّف مِنْ ثلاثين ألف رجل فأحاط بمكّة خوفاً مِنْ أنْ يقوم الحسين (عليه السّلام) بثورة مسلّحة فيها ضدّهم وعزل والي مكّة وعيّن مكانه عمرو بن سعيد الأشدق المعروف بعدائه الشديد للهاشميين وضمّ إليه إمارة الحرمين مكّة والمدينة حيث كان قد عزل والي المدينة أيضاً ؛ لتهاونه في أمر الحسين ولمْ يعجّل في قتله قبل خروجه من المدينة .
وبالإضافة إلى ذلك كلّه بعث ثلاثين جاسوساً اندسوا مع الحجّاج ( لغرض قتل الحسين (عليه السّلام) ) أينما وجدوه ولو كان معلّقاً بأستار الكعبة . ولو تأخّر الحسين (عليه السّلام) مع ذلك في مكّة لمدّة قليلة اُخرى لقُتل غيلة على يد اُولئك الجواسيس ولذهب دمه هدراً وعفي أثر الجريمة تماماً ولأُنكر قتله نهائياً وبتاتاً ولذهبت ثورته المقدّسة أدراج الرياح بدون أثر وقبل أنْ يقوم بتلك التضحيات التي هزّت ضمير العالم وزلزلت العرش تحت أقدام آل أبي سفيان .
إنّ الحسين (عليه السّلام) لمْ يخرج من المدينة أو مِنْ مكّة هرباً من القتل مِنْ حيث هو ؛ لأنّه كان يعلم أنّ مصيره القتل على كلّ حال خرج أو لمْ يخرج ولكن هرب من القتل قبل الأوان من القتل قبل أداء الواجب أو قل هرب مِنْ قتلة عقيمة وهرب أيضاً مِنْ شيء آخر وهو هتك حرمة البيت الحرام بسببه كما صرّح بذلك لبعض المعترضين عليه بالخروج فقال (عليه السّلام) : إنّي اُحبّ أنْ أُقتل خارج مكّة بباع خير مِنْ ذراع ؛ لئلاّ أكون الذي تستباح به حرمة هذا البيت .
وما انتهكت حرمة مكّة والبيت الحرام منذ حرّمهما الإسلام إلاّ على يد الاُمويِّين ؛ فهم أوّل مَنْ هتكوا الحرمات وسحقوا المقدّسات فكره الحسين (عليه السّلام) أنْ يكون دمه أوّل دم يُسفك في البيت وأوّل إنسان به تُهتك حرمة الحرم ؛ لذا خرج يوم التروية أي يوم الثامن مِنْ ذي الحجّة حيث لمْ يتمكّن مِنْ إتمام الحجّ فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحلّ مِنْ إحرامه وجعلها عمرة مفردة .
قال الفرزدق الشاعر : حججت بأمّي سنة ستين للهجرة فبينا أنا أسوق بعيرها وقد دخلت الحرم وإذا بقطار خارج مِنْ مكّة فقلت : لمَنْ هذا القطار ؟ فقيل : للحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) . فدنوت منه وسلّمت عليه وقلت له : يابن رسول الله ما الذي أعجلك عن الحجّ ؟ فقال (عليه السّلام) : يا عبد الله لو لمْ أعجل لأخذت . وقال لسائل آخر : إنّ بني اُميّة لا يدعونني حتّى يستخرجوا هذه العلقة مِنْ جوفي .
والخلاصة : لقد أصاب (عليه السّلام) وعمل بمقتضى الحكمة في توجهه أولاً إلى مكّة ثمّ في خروجه منها بعد أنْ أحدق به خطر القتل ؛ فهو (عليه السّلام) بدخوله إلى مكّة وإقامته فيها طيلة أربعة أشهر مهّد لثورته المقدّسة تمهيداً إعلامياً ودعائياً كاملاً وبخروجه منها حفظ حياته للقيام بمهام الثورة مِنْ حيث العمل والتطبيق .
وأخيراً : فهذه حياة المصلحين الأحرار حياة تشريد ومطاردة وخوف واضطهاد ولله در الحاج مجيد الحلّي (رحمه الله) حيث قال :
أيـطيبُ عيش وابنُ فاطمة نَهبتْ حشاهُ البيضُ والسمرُ
تاللهِ لا أنـسـاهُ مضطهداً حـتّى يضمُّ عظاميَ القبرُ
ومـشرّداً ضاقَ الفضاءُ به فـكـأنّ لا بـلد ولا مصرُ
مُنعَ المناسك أنْ يؤدّيها بمنى فكانَ قضاءَها النحرُ
إنْ فـاتهُ رميُ الجمارِ فقد أذكـى لهيبَ فؤادهِ الجمرُ
يسعى لإخوانِ الصفاءِ وهم فوقَ الصعيدِ نسائك جزروا
ويطوفُ حولَ جسومهم وبهِ انتظمَ المصابُ ودمعهُ نثرُ
أفـديـهِ مـستلماً بجبهتهِ حـجراً إذا ما فاتهُ الحجرُ
كيف وثق الحسين (عليه السّلام) بأهل الكوفة ولماذا خرج إليهم ؟
للشيخ صالح الكوّاز (قدس سره) :
إذا مـا سقى اللهُ البلادَ فلا سقى مـعاهدَ كـوفان بنوءِ المرازمِ
أتـت كـتبُهُمْ في طيهنَّ كتائب و مـا رقـمت إلاّ بسمِّ الأراقمِ
لخيرِ إمام قامَ في الأمرِ فانبرتْ لــهُ نـكبات أقعدتْ كلَّ قائمِ
أنْ اقدم إلينا يابنَ أكرم مَنْ مشى عـلى قدم مِنْ عُربِها و الأعاجمِ
فـكـمْ لكَ أنصاراً لدينا وشيعة رجـالاً كراماً فوق خيل كرائمِ
فـودّع مأمون الرسالةِ وامتطى متونَ المراسيلِ الهجانِ الرواسمِ
و جـشّـمها نجد العراقِ تحفّه مصاليتُ حرب مِنْ ذؤابةِ هاشمِ
يتساءل الكثيرون ممّن يستمع إلى سيرة الحسين (عليه السّلام) ويقول : وا عجباً ! كيف وثق الحسين بأهل الكوفة واعتمد عليهم في ثورته ولبّى طلبهم وهو مِنْ أعلم الناس وأعرفهم بغدر أهل الكوفة وتقلّبهم وقد سبق له أنْ جرّبهم مع أبيه علي وأخيه الحسن ؟! هذا بالإضافة إلى نصح جملة مِنْ خلّص أصحابه وأقاربه له بعدم الركون إلى رسائلهم ورسلهم ؛ فإنّهم قوم غدر وخيانة !
ونقول لهؤلاء : إنّ ما فعله الحسين كان عين الصواب والصحيح في عرف الشرع والسياسة ؛ أمّا إنّه لمْ ينجح في عمله هذا فذلك بحث آخر سوف نتعرّض له في الفصول الآتية تحت عنوان : هل كانت ثورة الحسين (عليه السّلام) ناجحة أم لا ؟
أمّا توجّه الحسين (عليه السّلام) يومئذ وهو في تلك الظروف إلى العراق كان مطابقاً للشرع والعرف السياسي الصحيح .
نقول : كان مطابقاً للشرع ؛ لأنّ الشارع الإسلامي يركّز أحكامه على الناس حسب ظواهرهم ويعتبر الظواهر هي الحجّة والقياس ومناط الأحكام . أمّا البواطن والخفايا والظنون والاُمور الغيبية فلا اعتبار لها في التشريع الإسلامي وإنّما أمرها إلى الله والله وحده هو المحاسب عليها يوم الحساب .
قال سبحانه وتعالى : {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء: 94] قيل : نزلت في مسلم رفع السيف في بعض الغزوات على مشرك ليقتله فقال المشرك : أشهد أنْ لا إله إلاّ الله ولكنّ المسلم مع ذلك ضربه بالسيف وقتله فبلغ الحادث إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فدعا بالمسلم وقال له : لِمَ قتلته وأنت سمعته يشهد أنْ لا إله إلاّ الله ؟ . فقال المسلم : يا رسول الله إنّه قالها خوف السيف لا عن إيمان وعقيدة . فقال الرسول (صلّى الله عليه وآله) : وما يدريك بذلك فهل فلقت قلبه وعرفت كذبه ؟! . وعلى أثر هذه القضية نزلت الآية الكريمة : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94].
ونصوص القرآن على حجيّة الظواهر في الإسلام كثيرة منها قوله تعالى : {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]. وقوله تعالى : {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. وقوله تعالى : {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا } [الحجرات: 12].
وأمّا السنّة فأقوال وأفعال منها قوله (عليه السّلام) : أُمرت أنْ اُقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلاّ الله محمد رسول الله فإذا قالوها حقنوا دمائهم وأموالهم وأعراضهم . وأيضاً أحاديث اُخرى مضمونها : مَنْ تشهّد بشهادتنا وصلّى إلى قبلتنا . . . فله ما لنا وعليه ما علينا .
وأكثر قواعد واُصول الفقه الإسلامي مبنيّة على الظاهر القائم بالفعل مثل قاعدة : المتّهم بريء حتّى تثبت إدانته أو قاعدة : لا يجوز القصاص قبل الجناية وقاعدة : اليد وقاعدة الطهارة وقاعدة الحليّة وقاعدة الإباحة وغيرها . . .
فالخلاصة : إنّ الإسلام دين يعامل الناس على الظاهر منهم لا على ما يمكن أنْ سيبدو .
فإذا تحقق هذا , نقول : إنّ أهل الكوفة أظهروا الولاء والطاعة للحسين (عليه السّلام) بشكل من الإخلاص والإلحاح والجديّة لمْ يسبق له مثيل وكان إظهارهم لهذا الولاء منذ عصر معاوية وفي حياة الحسن (عليه السّلام) وبعده وتضاعف طلبهم له عند وفاة معاوية .
ولمّا بلغهم نبأ وفاة معاوية وامتناع الحسين (عليه السّلام) من البيعة ليزيد وجّهوا رسلهم ورسائلهم ووفودهم إلى الحسين (عليه السّلام) وهو بعدُ في المدينة ولمّا استقر الحسين في مكّة انهالت عليه طلباتهم وكتبهم كالسيل المتدفّق حتّى تسلّم الحسين (عليه السّلام) منهم في يوم واحد ستمئة كتاب وبلغ مجموع كتبهم إلى الحسين (عليه السّلام) خلال مدّة إقامته (عليه السّلام) في مكّة إلى اثني عشر ألف كتاب وكلّ كتاب موقّع مِنْ قبل رجلين والثلاث والأربع وكلّها تكرّر عبارة : أقدم يابن رسول الله ليس لنا إمام غيرك ؛ فلقد اخضرّ الجناب وأينعت الثمار وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة .
وكتب له بعضهم قائلاً : إنْ لمْ تجب دعوتنا وتلبّي طلبنا وتتوجّه إلينا خاصمناك بين يدي الله يوم القيامة . فأيّ حجّة أعظم وألزم مِنْ ذلك ؟! وأيّ عذر للحسين (عليه السّلام) أمام الله وأمام التاريخ إذا لمْ يلبّي دعوتهم بعد ذلك كلّه ؟! وهل كان يبرّر له ذلك أنْ يقول : كنت أظن أو أتوقّع منهم الغدر والخلاف ؟!
وهذا الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) يقول في دستوره الخالد إلى واليه على مصر مالك الأشتر : إِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا فَلا تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا ؛ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ وَاللَّهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ .
ومِنْ قبله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فكم كان يرتّب آثار المسلمين وأحكامهم على المنافقين الذين يعلم علم اليقين أنّهم كاذبون في كلّ ما يظهرون ولكنّ الإسلام يعامل الناس على الظاهر حتّى يتبيّن الخلاف والعكس .
والحسين (عليه السّلام) سار حسب ما يقتضيه الشرع ولبّى دعوة أهل الكوفة لمّا أتمّوا الحجّة عليه بطلباتهم المتكرّرة ودعواتهم الحارّة المتواترة . وقد اُضيف إلى تلك الحجّة عليه حجّة اُخرى ألا وهي رسائل سفيره ونائبه الخاص مسلم بن عقيل الذي بعثه إلى الكوفة ليستكشف حقيقة الأمر أكثر فأكثر ، ويتعرّف على واقع تلك الدعوات عن كثب فكان نتيجة ما قام به مسلم بن عقيل طيلة أكثر مِنْ شهرين في الكوفة أنْ كتب إلى الحسين (عليه السّلام) مؤكداً له استعداد أهل الكوفة للتضحية بين يديه بالنفس والنفيس وبكل غال وعزيز ويستحثّه على القدوم إلى الكوفة فوراً .
وكان ممّا قاله في بعض كتبه إلى الحسين (عليه السّلام) : أمّا بعد فأقدم يابن رسول الله ؛ فإنّ الرائد لا يكذب أهله . إنّ الناس ينتظرونك وإنّ الكوفة بأسرها معك . فهل ترى أيّها القارئ الكريم أيّ عذر للحسين بعد كلّ هذا إذا تخلف عن إجابتهم وترك التوجه إليهم ؟!
وقد صرّح هو (عليه السّلام) بالمسؤوليّة التي توجّهت إليه تجاه أهل الكوفة لابن عمّه عبد الله بن عباس لمّا ألحّ عليه بترك المسير إلى العراق فقال الحسين (عليه السّلام) : يابن عمّ لقد كثرت عليّ كتبهم وتوافرت عليّ رسلهم ووجبت عليّ واجباتهم .
وأمّا من الناحية السياسية والحكمة فإنّ الحسين (عليه السّلام) ثائر في وجه دولة قويّة وحكومة مسيطرة وطبعاًً لا بدّ له مِنْ قوّة كبيرة يستند إليها في هكذا ثورة والعراق يومئذ أنسب قوّة وأكبر سند لمثل تلك الثورة التي عزم الحسين على القيام بها ؛ وذلك نظراً إلى مركز العراق الجغرافي وموقعه الاستراتيجي ومناخه الاقتصادي وغيرها من الملائمات التي تميّزه عن باقي الأقطار الاُخرى ؛ ومن ثمّ اختارها أمير المؤمنين (عليه السّلام) مِنْ قبل مركزاً لقيادته وعاصمة لخلافته ومنطلقاً لحركته الإصلاحية الشاقّة الواسعة بعد عهد عثمان الذي أغرق المجتمع الإسلامي بالمفاسد والانحرافات . وقد خرج منها علي (عليه السّلام) بمئة ألف مقاتل أو يزيدون إلى حرب صفين .
والخلاصة هي أنّ الكوفة يومئذ أفضل وأنسب منطلق لكلّ حركة ثورية لولا عيب واحد فيها فوّت كلّ مزاياها الثورية ألا وهو حالة التقلّب والتلوّن التي امتاز بها أهل العراق عامّة وأهل الكوفة خاصة .
وقد نقل عن لسان كاهن اليمن في كلمته التي حدّد فيها صفات الشعوب والأقطار فقال : وأمّا العراق فشقاق ونفاق وثياب رقاق ودم مهراق .
وجاء في بعض وصايا معاوية لابنه يزيد قال : وانظر أهل العراق فإنْ طلبوا منك أنْ تعزل عنهم في كلّ يوم والياً وتنصب لهم آخر فافعل ؛ لأنّ ذلك أيسر مِنْ أنْ يخرجوا عليك .
ويعزو الخبراء هذه الحالة فيهم إلى إحساسهم المرهف وذكائهم الفطري المفرط فهم دائماً وأبداً كانوا مصدر تعب وإزعاج للولاة والحكّام والأمراء لا يستقيمون إلاّ تحت وطأة العنف والإرهاب والظلم . فهم كما قيل عنهم : ( عبيد العصا ) على المدى البعيد وطلاّب الحقّ والعدل على المدى القريب سريعو الإقبال وسريعو الإدبار .
وعلى كلّ حال نتساءل بعد كلّ هذا ونقول : لو لمْ يتوجّه الحسين (عليه السّلام) إلى العراق رغم دعوتهم الملحّة له فإلى أين كان يتوجّه بعد أنْ صارت حياته في مكّة معرضة للخطر في أي لحظة ولمْ يتلقَ دعوة مِنْ أيّ مكان آخر غير العراق ؟ فهل كان يبقى في مكّة حتّى يُقبض عليه ويسلّم أسيراً إلى يزيد أو يغتال ويقتل غدراً ويذهب دمه هدراً ؟
نعم لك أنْ تقول لماذا لمْ يعدل عن الكوفة عندما ظهر له غدرهم به وانقلابهم عليه ؟ فنقول : أجل لقد حاول العدول عنها بل عدل عن التوجّه إليها فعلاً لمّا التقى بطلائع جيش العدو بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي وأيقن بأنّه ليس له في الكوفة مكان ولا أعوان ولكنّ الحرّ منعه مِنْ ذلك وصمّم على أنْ يأخذه إلى عبيد الله بن زياد أسيراً . وبعد محاولات عنيفة وتمانع من الطرفين اتّفق الحسين (عليه السّلام) معهم على أنْ يسلك طريقاً لا يردّه إلى مكّة والمدينة ولا يدخله إلى الكوفة ؛ ليسير على وجهه في أرض الله تعالى إلى حيث ينتهي به السير .
وهكذا كان وأخذ الحسين (عليه السّلام) طريقاً وسطاً وصار يتياسر عن الكوفة إلى الغرب متّجهاً نحو المدائن ؛ بقصد أنْ يخرج مِنْ منطقة نفوذ ابن زياد الذي كان أخبث وأشقى رجل في عمّال يزيد وأشدّهم عداءً وبغضاً لآل النبي (صلّى الله عليه وآله) .
فسار الحسين (عليه السّلام) في الاتّجاه الجديد والحرّ وأصحابه يسايرونه على البعد حتّى وصل أرض كربلاء وهي أرض على شاطئ الفرات كانت تسمّى نينوى والغاضريات ووادي الطفوف فلمّا وصل ركب الحسين (عليه السّلام) إليها وصل أيضاً رسول مِن ابن زياد بكتاب منه إلى الحرّ الرياحي يذكر فيه اطّلاعه على ما حدث بينه وبين الحسين (عليه السّلام) ويأمره فيه أنْ يأتي إليه بالحسين (عليه السّلام) سلماً مستسلماً وإلاّ فليحبسه عن الرجوع أو المسير وليجعجع به في المكان الذي يصل فيه الكتاب إليه ويخبره بأنّ حامل الكتاب عين عليه .
فدنا الحرّ عند ذلك من الحسين (عليه السّلام) وأطلعه على الكتاب وقال : لا يسعني بعد هذا أنْ أدعك مستمراً في سيرك فإمّا أنْ تنزل هنا أو نقاتلك فعرض عليه بعض أصحابه القتال مع القوم فقال (عليه السّلام) : إنّي أكره أنْ أبدأهم بقتال .
ثمّ نزل الحسين وأصحابه (عليهم السّلام) في جانب ونزل الحرّ في ألف فارس في جانب آخر مِنْ أرض كربلاء وذلك في يوم الثاني مِنْ شهر المحرّم الحرام سنة (61) للهجرة ثمّ كتب الحرّ إلى ابن زياد كتاباً يخبره بنزول الحسين (عليه السّلام) أرض كربلاء فكتب ابن زياد إلى الحسين (عليه السّلام) كتاباً يقول فيه : أمّا بعد يا حسين فقد بلغني نزولك أرض كربلاء وقد كتب إليّ أمير المؤمنين يزيد أنْ لا أتوسد الوثير ولا أشبع من الخمير حتّى ألحقك باللطيف الخبير أو تنزل على حكمي وحكم يزيد .
فلمّا وصل كتابه إلى الحسين (عليه السّلام) وقرأه رماه مِنْ يده وقال : لا أفلح قوم اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق . فقال له الرسول : الجواب أبا عبد الله . فقال (عليه السّلام) : ليس له عندي جواب Ø› فقد حقّت عليه كلمة اÙ