شبهات و ردود

وهو التعظيم للشعائر وحرمة الابتذال والإحلال لها:
ـ (لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ).
ـ (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ).
ـ (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ).
والبحث حول المتعلّق يقتضي تقرير النقاط التالية:
النقطة الأولى : يجب الالتفات إلى أنّ وجود الشعيرة والشعائر هو أشبه ما يكون بالوضع حيث إنّ كلّ موضوع تزداد صلته وارتباطه ووثاقته وعلاميّته للموضوع له بكثرة الاستعمال أو بأسباب ومناشئ أخرى فيصبح هناك نوع من العلقة الشديدة بين الموضوع والموضوع له كما هي العلقة بين اللفظ والمعنى في اللغة.
فبعض الأمور توضع علامات لمعنى معيّن وكلّ ما تقادَم الزمن وتزايد الاستعمال تُصبح أكثر صلة بذلك المعنى إذ بدلَ أن يأتي في الذهن بالموضوع له وهو المعنى يأتي بنفس الموضوع وهو اللفظ فيحكم على اللفظ بأحكام المعنى من شدّة الوثاقة والصلة والربط ومن ذلك تُستقبح بعض الألفاظ لقبح المعاني وكثرة استعمال تلك الألفاظ فيها بخلاف مرادفاتها التي يقلّ استعمالها في ذلك المعنى مثل : لفظ الفرج حيث يقلّ استعماله في المعنى الموضوع له بخلاف مرادفه من الألفاظ التي يكثر استعماله فيه.
ومن هذه النقطة الأولى نلتفت إلى أنّ العلاقات والأوضاع التي توضع لمعانٍ معيّنة تختلف فيما بينها بشدّة العلقة أو خفتها فبعضها علاميّته واضحة لدى كلّ الأذهان.
وبعضها علاميّته واضحة لدى قطر معيّن أو مدينة معيّنة أو طائفة معيّنة أو شريحة معيّنة دون شرائح أُخرى.
إذاً بيانيّة العلامة والأمور الاعتباريّة والمعنى تختلف شدّةً وضعفاً ويمكن التمثيل بالأحكام الدينيّة أنّ بعضها ضروري أو بديهي وبعضها ضروري عند فئة خاصّة كالفقهاء وبعضها قد يكون نظريّاً عند صنف وضروريّاً عند صنف آخر بعضها قد تكون قطعيّاً لكن نظريّاً وبعضها غير نظري بل ظنّي وهكذا فهي على درجات أيضاً.
ومعالم الدين أو الشعائر ـ التي هي من مصاديق المَعلميّة والأمور الاعتباريّة الوضعيّة ـ تختلف أيضاً في علاميّتها وفي بيانيّتها للمعنى الديني أو للحكم الديني أو للسِمة الدينيّة شدّةً وضعفاً لتلك السمات مثل : رسم خطّ لفظة الجلالة المعدودة من الشعارات ـ هذه اللفظة (لفظة الجلالة) أو اسم النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ـ أو أسماء الأئمّة (عليهم السلام) يترتّب عليها أحكام خاصّة مثل : حرمة لمسها للمُحدِث أو حرمة تنجيسها ووجوب تطهيرها وذلك نوع من التعظيم لنفس هذه الشعيرة والعلامة للمعنى الديني.
فملخّص النقطة الأولى : أنّ الأمور المَعلميّة لمعاني الدين على درجات متفاوتة بعضها شديد وبعضها متوسّط وبعضها خفيف الصلة كما أنّها تختلف بحسب الأوصاف وبحسب الفئات والشرائح وهذه نقطة مهمّة مؤثّرة في أحكام الشعائر الدينيّة كما سيأتي.
النقطة الثانية : إنّ الشعائر الدينيّة ـ حيث إنّها علامة ـ لا بدّ أن ترتبط بذي العلامة وهو المعنى الديني أقصِد معنىً معيّناً من المعاني الدينيّة فصلاً من الفصول الدينيّة ركناً من الأركان الإسلاميّة هيكلاً من هياكل الدين القويم وتختلف بعضها عن البعض قدسيّة وتعظيماً بسبب المعنى الذي تدلّ عليه وهذا الحكم من المسلّمات لدى المذاهب الإسلاميّة الأخرى مثلاً : الهاتك لحرمة الكعبة يُحكم عليه بالكفر فالذي يُحدث في المسجد الحرام لا يُحكم عليه بالكفر لكنّه يُحدّ بالقتل أمّا الذي يُحدِث في الحرم المكّي بقصد الإهانة فيُعزّر ولا يُحكم عليه بالارتداد ولا يُقتل وهذه أحكام وردت في روايات معتبرة وقد أفتى على طبقها العلماء وهي في الجملة محلّ وِفاق حتّى عند جمهور العامّة.
هذا الاختلاف في الحُكم بين الكعبة كشعار وحكم المسجد الحرام كشعار وحكم الحَرم المكّي كشعار هو أوضح دليل على هذا الأمر.
مثال آخر : التفريق بين اسم الجلالة وصفات الجلالة أو ما بين لفظ الجلالة ولفظ (جبرئيل) أو التفريق بين اسم الجلالة واسم النبي والأئمّة وأسماء بقيّة الأولياء أو التفريق مثلاً بين القرآن الكريم وبين الكتب الدينيّة الأخرى وإن كانت كتب أحاديث أو سُنّة نبويّة أو معصوميّة أو التفريق بين الكتاب الديني والمصحف الشريف.
المصحف الشريف علاميّته على كلام الله سبحانه وتعالى كلام ربّ العزة كلام ربّ الكون وربّ الخليقة على كلام الوجود الأزلي بينما الكتاب الديني الآخر يدلّ على مضامين لأحكام إسلاميّة ويختلف حتّى في الحُرمة والقدسيّة.
كذلك الكعبة ـ التي هي شعار ومعلم ديني ـ تختلف في الشرف والقدسيّة عن المسجد الحرام وتختلف عن الحرم المكّي فيُلاحظ أنّ التعظيم معنى تشكيكي والابتذال وشدّة الحرمة وخفّة الحرمة وشدّة وجوب التعظيم وخفّته تتبع أمراً آخر أي أنّها تتبع المعنى الذي وضع الشِعار علامة له والمعلَم الذي وضِع الشِعار علامة له.
إذاً في النقطة الثانية يتبيّن أنّ الشعائر تختلف شدّة وضعفاً وتختلف أهميّةً ومنزلةً بحسب المعنى الذي تدلّ عليه والتعظيم يختلف أيضاً بتبع ذلك.
ونتيجة هاتين النقطتين : أنّ التعظيم يختلف باختلاف إمّا العُلقة بين الشعار والمعنى الديني الذي يدلّ عليه أو قُل بين العلامة وذي العلامة ويختلف باختلاف شدّة وخفّة العُلقة.
تارةً بعض الأحكام تختلف بسبب شدّة وضعف العلاقة (انشداد العلامة لذي العلامة والشعيرة مع المعنى) وتارةً يختلف الحُكم بسبب ذي العلامة والمعنى الذي جُعلت الشعيرة مَعلماً له وإعلاماً له وهذا اختلاف من جنبة أخرى وكلّ منهما مؤثّر في حكم الشعائر.
مثلاً : الشعيرة المعيّنة التي تُستجدّ وتُستحدث تارةً توضع شعيرة في باب الحجّ وتارة توضع في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارة توضع في باب الشعائر الحسينيّة أو في باب حفظ وتلاوة القرآن وتعظيمه وتارة في باب عمارة قبور الأئمّة (عليهم السلام) وهكذا.
إذاً الشعيرة تختلف بحسب المعنى الذي توضع له بمقتضى النقطة الثانية وتارةً تختلف الشعيرة بحسب شدّة العلقة مع المعنى الذي توضع له فتارةً هي شديدة الصلة والعلقة والدلالة بيّنة الدلالة على المعنى الذي توضع له وتارةً أخرى هي غير بيّنة.
كما تُقسّم الدلالات إلى : بيّنة بالمعنى الأخص وبيّنة بالمعنى الأعم أو دلالة نظريّة والأحكام التي تترتّب على وجوب تعظيم تلك الشعائر أو العلامات والمعالِم الدينيّة من حيث الحكم بالتعظيم ووجوب التعظيم وشدّة التعظيم أو خفّته كلّها تتّبع طبيعة العلاقة بين الشعيرة أو المعلَم والمعنى الذي تشير إليه فإن كان شديد العلقة بحيث لا يخفى على أحد فلا يقبل دعوى الشبهة والبدعيّة في ذلك أصلاً.
كذلك يختلف المعلم أو المعنى الذي توضع له الشعيرة فإن كان معنىً مُقدّساً لدرجة عالية فالأحكام المترتّبة عليه تختلف عمّا هي عليه في المعنى الفرعي من فروع الدين مثلاً وبتبع ذلك اختلاف نوع ودرجة التعظيم والتبجيل وحرمة الابتذال من شعيرة لأخرى حيث لا يكون على وتيرة واحدة بسبب هاتين النقطتين المذكورتين.
فتعظيم كلّ شعيرة يكون بحسبها يعني بحسب المعنى الذي توضع له وبحسب شدّة الصلة التي تتّصل وتتوثّق.
ونِعم ما ذكرَ صاحب الجواهر ـ وقد تقدّمت الإشارة إليه ـ في بحث الطهارة حيث قال : إنّ كلّ شيء بحسب ما هو معظّم عند الشارع يجب تعظيمه ويشير بذلك إلى الاختلاف بحسب المعنى وهو مفاد الآية الكريمة في سورة الحج (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) يعني كلّ شيء له حريم وحرمة وعظمة عند الشارع يجب أن يراعى الاحترام والتبجيل بحسب ما هو عند الشارع ولا ريبَ في أنّ حريم حُرمات الله مختلف الدرجات وإنّها ليست على درجة واحدة ولا على وتيرة ثابتة.
النقطة الثالثة : إنّ كلّ متعلَّق ينطبق على المصاديق على استواء مثل : لفظة الإنسان ينطبق على كلّ أفراد البشر على حدّ سواء.
وهناك عنوان آخر ـ كالعدد ـ ينطبق على الألف أشدّ من انطباقه على العشرة وهكذا باب الألوان فالسواد : ينطبق على السواد الشديد أشدّ من انطباقه على السواد المتوسّط أو الخفيف وهناك موارد أخرى عديدة مثل : الشدّة تنطبق على الأشدّ أقوى من انطباقها الأقل شدّة.
فالعناوين على نحوين : قسم منها يسمّى متواطئ بشكل سواء يطأ وطأة واحدة على كلّ مصاديقه.
وقسم تشكيكي أي : ينسبق الذهن إلى بعض مصاديقه قبل انسباقه إلى البعض الآخر ووجود الطبيعة في بعض الأفراد أشدّ أو أقوى أو أكثر من الأفراد الأخرى.
فإذا أمرَ الشارع بطبيعة تشكيكيّة أو نهى عن طبيعة تشكيكيّة مثل : الأمر ببرّ الوالدين أو بصلة الأرحام فإنّ صلة الرحم على درجات : درجة عُليا ودرجة وسطى ودرجة دانية وكذلك الحال بالنسبة لبرّ الوالدين والعِشرة بالمعروف مع الزوجة.
وهذه الظاهرة موجودة في القانون الوضعي أيضاً ولا تختص بالقانون الشرعي فالطبيعة ذات الدرجات التشكيكيّة ذات الحُكم الإلزامي لا تكون كلّ مراتبها إلزاميّة بل إنّ القدر المتيقّن منها بحسب موارده ففي النهي يكون الأعلى هو القدر المتيقّن وفي الوجوب يكون الأدنى هو المتيقّن وهذا هو الإلزامي فحسب والبقيّة ندبيّة راجحة إن كان الحُكم طلبيّاً أو مكروهة إن كان الحكم زجريّاً.
وديدَن الفقهاء على أنّ القدر المتيقّن هو الإلزامي مثلاً إذا أمر بصلة الرحم أو ببرّ الوالدين ؛ فإنّ الملزم من صلة الرحم أو برّ الوالدين هو الدرجة المتيقّنة منه وهي ـ باعتبار أنّ الحكم وجوبي وإلزامي ـ الدرجة الدُنيا أي امتثال الأمر ببرّ الوالدين بنحو لا يلزم منه عقوق الوالدين وكذلك صلة الرحم بنحو لا يلزم منه قطيعته.
فمن ثُمّ عند الاستدلال بحرمة عقوق الوالدين أو بأدلّة وجوب برّ الوالدين وصلتهما تكون النتيجة واحدة ؛ لأنّ الأمر بصلة الوالدين وبرّهما حيث كان تشكيكاً فالقدر المتيقّن منه هو الدرجة الدُنيا فتكون النتيجة هي عين قول مَن قال : إنّ الحُكم في برّ الوالدين راجح مستحب وليس بإلزامي ؛ وإنّما الإلزام في حرمة عقوقهما.
وكذلك الحال في مسألة حُكم صلة الأرحام هل صلة الأرحام واجبة بكلّ درجاتها أم أنّ قطع الرحم حرام الاستدلال بكلا اللسانين من الأدلّة يعطي نفس النتيجة ؛ لأنّ المأمور به في صلة الرحم أو في برّ الوالدين أمرٌ تشكيكي فيكون القدر المتيقّن منه هو الأدنى أي بمقدار حرمة عقوق الوالدين أو حرمة قطع الرحم.
أمّا في الحرمة فالقدر المتيقّن على العكس إذ لو كان المتعلّق عنواناً تشكيكيّاً تكون الدرجة العليا منه هي المحرّمة وما دون ذلك يُحكم عليه بالكراهة.
والحال كذلك في محلّ البحث (المتعلّق) الذي هو تعظيم الشعائر فإنّه ذو درجات متفاوتة كلّ تعظيم فوقه تعظيم آخر وكلّ خضوع فوقه خضوع آخر وكلّ بث ونشر فوقه بثّ ونشر آخر وكلّ إتمام لنور الدين فوقه إتمام لنور الدين آخر وهلمّ جرّاً.
فهل كلّ هذه الدرجات واجبة مع أنّ الغالب في العناوين التشكيكيّة ورود لسانين : (لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ) بلسان الحرمة ؟
و (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) بلسان الوجوب؟
وهل كِلا الحُكمين مُقنّن على نحو الإلزام أم أحدهما راجح والآخر إلزامي ؟ تفصيل هذا البحث في هذه النقطة الثالثة : وهي أنّ العنوان هنا تشكيكي فالدرجة اللازمة من التعظيم هي التي يلزم من عدمها الابتذال والهتك فتكون هي واجبة أمّا بقيّة درجات التعظيم فتكون راجحة.
فلو قيل : إنّ الحُكم هو حرمة الهتك وحرمة الإهانة فيكون صواباً أو قيل : إنّ الحكم هو وجوب التعظيم بدرجة لا يلزم منها الابتذال والهتك أيضاً فهو صواب أيضاً.
عِلماً بأنّ إهانة كلّ شيء بحسبه وأيضاً تعظيم كلّ شيء بحسبه فآية : (لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ) تحريمٌ وردَ على عنوانٍ متعلّقه تشكيكي أي : تحريم الابتذال والاستهانة والانتهاك لشعائر الله ومن هذا الباب قيل : حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين وهذه جنبة ثالثة لاختلاف مراتب التعظيم والإهانة وهي درجة ومقام المخاطب بالتعظيم وطبيعة علاقته مع طرف التعظيم فعند المقرّبين أدنى ترك للأولى أو للتعظيم لساحة القدس الربوبيّة يُعتبر نوع خفّة وتهاون بمقام القُدس الإلهي والإهانة أيضاً لها درجات الخفيف منها ليس إلزاميّاً القدر المتيقّن الذي يكون إلزاميّاً هو الشديد وهو حرام وبقيّة المراتب المتوسّطة أو الدنيا فيها نوع من الكراهة فلابدّ من الالتفات إلى النقاط الثلاث المزبورة وننتهي بها إلى أنّ تعظيم كلّ شيء بحسبه وإهانة كلّ شيء بحسبه وليس ذلك على وتيرة واحدة وإنّ القدر المتيقّن من الحُكم هو وجوب التعظيم بنحوٍ لو تُركَ للزمَ منه الهتك والإهانة وليس كلّ مراتب التعظيم إلزاميّة وإنّما درجات التعظيم الفائقة والعالية تكون راجحة وندبيّة وليست إلزاميّة.
هذا هو تمام البحث في جهة المتعلّق وهي الجهة الخامسة .
النسبةُ بين حُكم القاعدة وبقيّة الأحكام
في هذا المقطع من البحث نسلّط الأضواء على العلاقة بين حُكم قاعدة الشعائر مع كلّ من الأحكام الأوّليّة والأحكام الثانويّة.
وقد تقدّم ببيان وافٍ أنّ الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة هو من حيث الملاك حكم أوّلي ومن حيث الموضوع ثانوي الوجود وهذا ما اصطلحنا عليه أنّه من الأحكام الثانويّة في جنبة الموضوع.

النسبةُ بين حُكم قاعدة الشعائر والأحكام الأوّليّة
ليس الحُكم في قاعدة الشعائر متّحداً مع الأحكام الأوّليّة كما قد يتخيّل من خلال الآية : (.. وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) وكما مرّ في كلمات جملة مِمّن تعرّض إلى ذِكر تعريف الشعائر بأنّها : مناسك الحج وبعضهم عرّفها بأنّها : الدين كلّه وبعضهم عرّفها بأنّها : حُرمات الله.
وقلنا : إنّ الصحيح هو ثانويّة القاعدة من جنبة الموضوع لا من جنبة الحُكم أمّا من جنبة المتعلّق ـ وهو التعظيم لها ـ فلها ركنان أساسيّان وهما : جانب الإعلام وجانب الإعلاء والاعتزاز المتضمّن للإحياء والإقامة وهذان كفِعلين تدلّ عليهما الشعيرة والشعائر ولا تفيدهما بقيّة الأحكام الأوّليّة في باب الفقه نعم تلك الأحكام متكفّلة لملاكات أُخرى ومتعلّقات وأفعال أُخرى وقد يتصادق حكمان ومتعلّقان في وجود واحد كما قد يتصادق مثلاً برّ الوالدين مع طاعة الله ومع تحقّق الصدقة أو تحقّق الهديّة أو ما شابه ذلك لكن لا يعني ذلك أنّ العنوانين والفعلين والحكمين هما حكم واحد وبملاك واحد وبمصلحة واحدة.
فإذاً تصادق الشعائر مع بعض الأحكام الأوّليّة وانطباقها في مصداق واحد لا يعني أنّ الشعائر حكمها متّحد مع نفس حكم الأحكام الأوّليّة.
وقد جعلَ بعض المفسّرين حكم الشعائر هو عين الأحكام الأوّليّة وفسّر (.. وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللّه) بنفس إيجاب البُدن هو إيجابٌ للشعيرة يعني البُدن جعلناها من وظائف الحج ومنسكاً من مناسك الحج والحال أنّ هذه الآية في صدد التعرّض لشيء آخر كما هو مبيّن في روايات الأئمّة (عليهم السلام) في باب الحجّ .
وفي بعض الروايات عن الإمام الصادق (عليه السلام) في أبواب الهَدي يتبيّن افتراق الشعيرة في البُدن عن وجوب أصل البدنة أو غيرها من أنواع الهَدي.
وقد عقدَ صاحب كتاب الوسائل باباً لاستحباب تعظيم شعيرة البُدن (الهَدي) كما ورد عن الأئمّة (عليهم السلام) الأمر الندبي باتّخاذ البُدن السمينة ؛ لأنّه نوع من تعظيم الشعائر أو باعتبار كون البُدن المسوقة مع الحاجّ عَلَماً من أعلام الحجّ وهو نوع من الإعلام والتبليغ والدعاية والترويج لفريضة الحجّ ونوع من التظاهرة الشعبيّة للمكلّفين أو لمجتمع المسلمين في إظهار علامات الحجّ لا سيّما إذا كانت البُدن تُساق من مسافات عديدة فهو نوع من حالة النشر الديني لفريضة ونسك الحجّ والتبليغ لها.
ففي الروايات الواردة دلالة واضحة على أنّ جعل الشعيرة كذلك هو أمر آخر غير جعلها واجبة من فرائض الحجّ.
وإنّ حُكم الشعائر ـ وهو وجوب التعظيم ـ غير حكم أصل إيجاب الهَدي في الحجّ فممّا بحثناه سابقاً عن ماهيّة الشعائر وماهية متعلّق الحكم في الشعائر يتبيّن أنّ الحكم في الشعائر هو غير الأحكام الأوّليّة نعم هو ينطبق على الأحكام الأوّليّة إذا كانت تلك الأحكام الأوّليّة في الفعل والمتعلّق المرتبط بها تتضمّن جنبة إعلام وتبليغ وتتضمّن جنبة إنذار وإفشاء لحكم من الأحكام الإسلاميّة أو لعبادة دينيّة معيّنة نعم ينطبق عليها أنّها شعيرة مثل : صلاة الجماعة وصلاة الجمعة لا مثل الصلاة فرادى.
على كلّ حال ؛ فإنّ الشعيرة ماهيةً وموضوعاً ومتعلّقاً وحكماً وملاكاً تختلف عن الأحكام الأوّليّة نعم هي قد تتطابق مع الأحكام الأوّليّة لكن لا أنّها هي الأحكام الأوّليّة بعينها.
فحكمها ليس هو عين الأحكام الأوّليّة بل لها حكم أوّلي آخر وصِرف كونها ثانويّة لا يعني ثانويّة حكمها بل كثير من الأحكام الأوّليّة تطرأ عليها العناوين بلحاظ انطباقها في المصاديق الخارجيّة كما في التعظيم أو الاحترام حيث تتّخذ مصاديق وأساليب ووسائل مختلفة في الاحترام مع أنّها ليست حكماً بأن يُحضر يوم عرفة بها).
ثانوياً بل هي حكم أوّلي فالثانويّة هنا في المتعلّق وليس في نفس الحكم وإلاّ فالحكم هو أوّليٌّ وملاكه أوّلي وهكذا الحال في قاعدة الشعائر الدينيّة.
فالثانويّة في قاعدة الشعائر الدينيّة : هي في جنبة الموضوع والمصداق لا في جنبة الحُكم والملاك والحال على العكس في قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) أو قاعدة (لا حرج) أو العناوين التسعة في حديث الرفع فرفع العناوين التسعة من الاضطرار والنسيان والإكراه التي تطرأ على الحكم وهي ثانويّة في جنبة الحكم.
فالعلاقة بين حكم قاعدة الشعائر ـ التي قلنا بأنّ موضوعها ثانوي وحكمها أوّلي ـ مع الأحكام الأوّليّة ينطوي على تفصيل في البَين ؛ لأنّ هذا النمط من الأحكام الأوّليّة ذي المواضيع الثانويّة ليس هو حكماً أوّليّاً بقول مطلق كي يقال إنّه حكم أوّليّ يندرج في الأبحاث السابقة ولا هو حكم ثانوي كذلك.
بل فيه ازدواجيّة ثانويّة الموضوع التي ذكرنا أنّه لم ينبّه عليها اصطلاحاً علماء الأصول إلاّ أنّهم مضوا عليها ارتكازاً ومن جهة المحمول هو حكم أوّلي
وملاك أوّلي ففيه ازدواجيّة الجنبتين فهل يكون هو موروداً أو محكوماً أو حاكماً؟
وهل نضعه في قسم الأحكام الأوّليّة أم نضعه في رديف وقسم الأحكام الثانويّة؟
ويتّضح بناءً على ما قدّمنا سابقاً ـ في تحرير موضوع قاعدة الشعائر الدينيّة أو متعلّقها ـ أنّ النسبة بين الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة والأحكام الأوّليّة : هي أنّ الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة موضوعه أو متعلّقه عام يتناول كلّ مُحلّل بالمعنى الأعم بالحلّيّة بالمعنى الأعم عدا موارد الحرمة وإن اتّفق اجتماع مورد الحرمة مع بعض الشعائر الدينيّة فهذا لا يوجب التعارض بل ولا تقديم دليل الحكم الأوّلي على دليل الشعائر وإنّما يكون من قبيل اجتماع الأمر والنهي ؛ لأنّ المفروض أنّ التصادم والتوارد في ذلك المصداق اتفاقي.
فمن ثُمّ نرى أنّ كثيراً من العلماء ـ في شقوق عديدة من استفتاءاتهم في الشعائر الدينيّة المختلفة وفي فرض تصادم الشعائر الدينيّة أحياناً في بعض الموارد مع المحرّمات ـ لا يبنون على التعارض وعندما نقول ذلك لا نريد منه أنّ الحاكم أو الفقيه في سياسيّته الفتوائيّة يُديم عُمر تصادق الشعيرة الدينيّة (من أيّ باب كانت) مع ذلك المحرّم حيث ذكرنا سابقاً أنّ التزاحم ـ سواء كان ملاكيّاً أو امتثاليّاً ـ له ضرورات استثنائيّة تقدّر بقدرها يجب أن لا يفسح الفقيه المجال أن تعيش هذه الحالة بنحوٍ دائم وتكون حالة غالبة بل يجب أن يتفاداها بقدر الإمكان لكن اتّفاق وقوعها لا يدلّ على التعارض هذا كلّه في نسبة الحكم في القاعدة والأحكام الأوّليّة.
تقسيمُ الأحكام الثانويّة في جنبة الحكم
نلاحظ أنّ الأحكام الثانويّة في جنبة الحكم سنخان:
الأحكامُ الثانويّة المُثبتة
مثل : وجوب طاعة الأبوين أو حرمة عقوق الأبوين ومثلها : (المؤمنون عند شروطهم) التي نستفيد منها وجوب الوفاء بالشرط ومنها : وجوب النذر واليمين والعهد وما شابه .. هذا نمط من الأحكام الثانويّة.
الأحكام الثانويّة النافية
وهناك نمط آخر من قبيل : (لا ضرر) (لا حرج) وغيرها الواردة في حديث الرفع : (رُفع عن أمّتي تسع) وهناك فارق بين السِنخين.
وقد يُقرّر بأنّ الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة هو من النمط الأول من العناوين الثانويّة في جنبة الحكم والتي فيها جهة إثبات وإلزام مثل : (المؤمنون عند شروطهم) ووجوب أداء النذر واليمين كما قد يُقرّب أنّ وجوب أداء النذر حكم ليس بثانوي بل تُعدّ هذه الأحكام (في الشقّ الأوّل) أحكاماً أوّليّة وهي مسانخة للحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة وإنّها ـ من هذه الجهة ـ هي ثانويّة الموضوع أوّلية الحكم فوجوب الوفاء بالشرط حكم أوّلي ووجوب الوفاء بالعقد حكم أوّلي ووجوب الوفاء بالنذر والعهد كذلك وطاعة الأبوين أو حرمة عقوقهما كذلك لكنّ هذه الأحكام ثانويّة الموضوع.
وهذه الدعوى ليست ببعيدة من جهة أنّ ملاكات الحكم في هذه العناوين من قبيل : الأحكام الأوّليّة لا أنّها أحكام استثنائيّة شاذّة.
الفارقُ بين حكم القاعدة والأحكام الثانويّة المثبتة
لكن تظل لها ميزة وفارق مع الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة.
فالنذر ـ مثلاً ـ قد يكون إنشاؤه مكروهاً وكذا اليمين والعهد وحكم طاعة الوالدين على الرغم من أنّه كان بنفسه راجحاً لكن بلحاظ الجهة الأبويّة يعني بما يتّصل بالجهة الأبويّة وليس أنّه يتبدّل حكم الفعل في نفسه إذ يبقى حكمه الذاتي على حاله ولكن باعتباره مقدّمة لطاعة الأبوَين أو لعدم عقوقهما ؛ فإنّه يلزم بفعله ولا يتغيّر عمّا هو عليه وكذلك : (المؤمنون عند شروطهم) حيث أصبح ذلك الفعل واجباً بسبب الالتزام.
فللشقّ الأوّل من هذه الأحكام الثانويّة ميزة تختلف عن نفس الشعائر إذ إنّ الشعائر أمرٌ مرغّب فيه ولها ارتباط بكثير من أبواب الدين وفصول الدين وليست من قبيل هذه الأحكام الثانويّة المُثبتة لكن بين هذا الشقّ الأوّل والحكم في قاعدة الشعائر قواسم مشتركة أكثر من القواسم المشتركة الموجودة بين الحكم في قاعدة الشعائر والشقّ الثاني من الأحكام الثانويّة النافية.
وبهذا المقدار يتبيّن نوع من حقيقة الحكم في الشعائر وذلك أنّه حكم أوّلي وليس ثانويّاً استثنائيّاً طارئاً بل يريد الشارع أن يُجريه ويطبّقه ويحقّقه.
ولا يريد إقامة النذر والوفاء به اللهمّ إلاّ أن يقع النذر فيُلزم بوفائه وكذلك
الشروط حسب دليلها : (المؤمنون عند شروطهم ..) أو الوفاء بالعقود وعلى مقدار تأدية الضرورات أو الحاجات.
بخلاف باب الصلاة والعبادات وأبواب أُخرى وكذلك في أبواب الشعائر إذ الإرادة الشرعيّة في الشعائر تتناسب مع ذي الشعيرة كما مرّ بيان ذلك إذ نمط الحكم هو في مقام الإعلام والإفشاء والتشييد والإعلاء لأحكام الأبواب الشرعيّة فالحكم وثيق الصلة بالأحكام الأوّليّة.
النسبةُ بين قاعدة الشعائر والأحكام الثانويّة
بعد بيان أقسام الأحكام الثانويّة نحاول تقرير النسبة بين حكم القاعدة والأحكام الثانويّة أي الثانويّة في جنبة الحكم بقسمَيها المُثبتة والنافية فمن الواضح حينئذٍ أنّ نسبة الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة مع الأحكام الثانويّة في جنبة الحكم ـ في كلا الشقَّين المُثبتة والنافية ـ كنسبة الأحكام الأوّليّة مع الأحكام الثانويّة ؛ لأنّ حكم الشعائر هو الحكم الأوّلي والأحكام الثانويّة المثبتة أو الرافعة لا تزيل ولا تنفي ولا تلغي الحكم الأوّلي بل تُقدّم عليه من باب التزاحم ولكن بشكل مؤقّت وغير دائم كما هو شأن الحكم الثانوي مع الأحكام الأوّليّة.
حيث يجب أن يُقرّر الفعل أو الموضوع بلحاظ الأحكام الأوّليّة ومن ثُمّ ملاحظة الأحكام الثانويّة كشيء طارئ استثنائي عليها ؛ لأنّ حكم الشعائر هو حكم الطبيعة الأوّليّة التي لابدّ من ديمومة بقائها ورعايتها.
فهكذا حال الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة ووجوب تعظيمها مع الأحكام الثانويّة الأخرى المثبتة والنافية.
وإلاّ فليس من الصحيح ملاحظة الفعل أو الموضوع بلحاظ الأحكام الثانويّة مقدَّماً على ملاحظة الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة.
مضافاً إلى ذلك هناك إشكال وهو : أن لو عُدّ الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة حكماً ثانويّاً وعُدّت تلك الأحكام الثانويّة أحكاماً ثانويّة أيضاً فيكون كلّ منهما ثانويّاً فتقديم أحدهما على الآخر رتبةً ترجيح بلا مرجّح بل غاية الأمر أنّهما في رتبة واحدة ويقع بينهما التزاحم لا التعارض كما تقدّم.
وهذا جواب نقضي وإلاّ فالجواب الأساسي هو : أنّ الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة ليس من قبيل الحكم الثانوي بل هو حكم الطبيعة الأوّليّة التي لا بدّ من بقائها واستمرارها والمحافظة عليها فضلاً عن أن يكون الحكم في القاعدة مؤخّراً رتبةً عن الأحكام الثانويّة.
الخلاصة في هذه الجهة
ونستنتج من هذه النقاط ـ التي ذكرناها في العلاقة بين الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة والأحكام الأوّليّة والأحكام الثانويّة ـ عدّة نتائج وقبل ذلك لا بأس من التنبيه على أنّه بمقتضى أحد النقاط التي أثرناها في هذه الجهة : من أنّ مبنى مشهور الفقهاء أنّ نسبة العناوين الثانويّة لُبّاً مع الأحكام الأوّليّة هي التزاحم الملاكي ومن ثمّ قالوا : حرجُ كلّ شيء بحسبه أو ضررُ كلّ شيء بحسبه فمثلاً : الضرر في الوضوء بأدنى ضرر طفيف يرفع الإلزام بالوضوء أو الغُسل.
بينما في باب أكل حرمة المِيتة قالوا : إنّ الضرر الذي يرفع حرمة المِيتة هو
ذلك الضرر الذي يكون بدرجة شديدة بحيث يُشرف على الهلكة وحينئذٍ يتناول من الميتة بقدر ما يحفظ به رَمَق حياته ولا يتعدّى ذلك كما يستفاد من الآية : {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] .
وكذلك في المحرّمات الأخرى : كشُرب الخمر أو الزنا أو الفجور فما الوجه في كون الضرر المُهلك مسوِّغاً لرفع مثل تلك الحرمة دون اليسير منه؟
فالضرر في الوضوء يختلف عنه في باب أكل الميتة.
والحال في عنوان الحرج كذلك والفقهاء يعبِّرون بهذه العبارة : (الحرج في كلّ شيء بحسبه) فتجري قاعدة الحرج في الوضوء وفي غُسل الجنابة بأدنى درجة بينما هذه القاعدة في المحرّمات الشديدة الكبيرة لابدّ أن تكون بدرجة العسر الشديد جدّاً والوجه في التفرقة : هو أنّه في المحرّمات الشديدة لا يرفع تلك الحرمة أو لا يرفع تنجّزها وعزيمتها إلاّ الحاجة الشديدة بينما في موارد الحرمة الخفيفة يرفعها أدنى عسر ومشقّة كما تقدّم ويطَّرد الكلام في الاضطرار والإكراه والنسيان.
فالوجه لهذه التفرقة ليس إلاّ مبنى المشهور : من أنّ نسبة العناوين الثانويّة مع الأحكام الأوّليّة هي نسبة التزاحم الملاكي لا التخصيص والتقييد ومن ثَمّ شملها حكم التزاحم فالضرر اليسير لا يزاحم ولا يمانع الملاك الشديد وإنّما يدافع الملاك الخفيف وكذلك في الحرج والنسيان وغيرهما.
فالشعائر ليست على درجة واحدة من التعظيم أو من حرمة الإهانة بل هي تختلف شدّةً وضعفاً حسب شدّة وعظمة المعنى الذي تُعلِم عنه وتشير إليه أو بحسب شدّة العلقة كما مثّلنا لذلك سابقاً.
اختلافُ أحكام الشعائر شدّة وضعفاً
وبمقتضى هاتين النقطتين : النقطة التي مضت في الجهة الخامسة في المتعلّق وهي كون الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة تشكيكيّاً أي على درجاتٍ وعلى مستويات متفاوتة.
والنقطة التي نحن بصددها الآن : وهي أنّ الأحكام الثانويّة في جنبة الحكم نسبتها مع الأحكام الأوّليّة هي التزاحم فيجب أن تُلحظ درجة العنوان الثانوي مع درجة الحكم الأوّلي والحال بعينه في باب الشعائر أي ليس أيّ ضررٍ يكون رافعاً لكلّ حكم في الشعائر وإذا كان رافعاً لأحد أحكام الشعائر الدينيّة فإنّ ذلك لا يعنى كونه رافعاً لكلّ درجات أحكام الشعائر الدينيّة الأخرى ؛ لأنّها تختلف بعضها عن البعض شدّةً وضعفاً فدرجة التعظيم والتقديس للمصحف الشريف تختلف عن درجة التعظيم والتقديس للكتاب الديني.
فليس كلّ ضرر يرفع كلّ درجة من درجات الشعائر الدينيّة.
وليس الضرر الرافع منه لدرجة ما يكون رافعاً لبقيّة الدرجات أو بقيّة أقسام وأنواع الشعائر الدينيّة وكذلك الحال في الحرج أو الاضطرار.
فهذا ممّا يجب الالتفات إليه جيّداً هذا مُجمل الكلام في الجهة السادسة : وهي جهة العلاقة بين الحكم في قاعدة الشعائر الدينيّة والأحكام الأوّليّة من جهة ومع الأحكام الثانويّة من جهة أخرى.
الموانِعُ الطارِئة على قاعدة الشَعائر
وهي الجهة الأخيرة في بحث الخطوط العامّة للشعائر الدينيّة.
وتدور حول ممانعة الخرافة لقاعدة الشعائر الدينيّة أو استلزام بعض الشعائر للإهانة والاستهزاء أو الهتك وهذه عناوين بالطبع متعدّدة مختلفة ويجب أن نحلّل كلّ عنوان على حدة ونرى كيف يكون كلّ من هذه العناوين ممانعاً ؟ وهل هناك موارد للتصادق بين هذه العناوين وقاعدة الشعائر الدينيّة ؟ أو لا تصادق في البين أصلاً؟
وبادئ ذي بِدء نقف على عنوان ومصطلح الخرافة.
الخُرافة والشعائر
الخرافة ما هو موضوعها وكيف تكون مانعة لقاعدة الشعائر الدينيّة ؟
فالبحث في الخرافة تارة يكون حُكميّاً وأخرى يكون موضوعيّاً.
أمّا من جهة الموضوع : الخرافة في اللغة وفي العرف تُطلق على أيّ شيءٍ وهمي أو تخيّلي أو الذي لا يُمتّ إلى حقيقة واقعيّة أو حسّيّة فأيّ شيء يُمليه الوهم أو يمليه الخيال من دون أن يكون له مطابق حقيقي في الواقع ـ لا عقلي ولا حسّي ـ يسمّى خرافة.
والحسّ ليس معصوماً على الدوام إذ قد يتطرّق إليه الخطأ وإن كان الحسّ إجمالاً من منابع البديهيّات وكذلك العقل منبع جملة من أقسام البديهيّات وليس كلّ ما لا يُدرك بالحس هو ليس بحقيقة ؛ ولأنّ كثيراً من الأشياء موجودة وحقيقيّة مع أنّها لا تُدرك بالحسّ وعلى كلّ حال فاقتناص الحقيقة يكون إمّا بأداة العقل أو بأداة الحس أو بأداة القلب فيما يعاينه من العلوم الحضوريّة.
ففي مقابل الحقائق هناك خرافات فإذاً هذه ماهيّة الخرافة الموضوعة التي لا يقوم عليها دليل عقلي ولا دليل نقلي ولا دليل حسّي ولا دليل مبرهن ؛ وإنّما يُصوّرها الخيال أو الوهم وحينئذٍ تكون خرافة.
وحينما نُقرّر أنّ الأداة العقليّة أو الأداة الحسّيّة تتوسّط لإثبات الحقائق فليس ذلك على الدوام بل لابدّ من ميزان يعتصم به العقل عن الخطأ في البديهيات التي هي كرأسمال فطري مودَع في الإنسان من قِبل الله تعالى فتلك أداة عصمة للإنسان يستهدي بها في دوائر الشبهة وهي من الأمور النظريّة وكذلك في الحس هناك دائرة كبيرة من البديهيات يستهدي بها في دوائر الشبهة.
وإلاّ فإنّك ترى نهاية الشارع (الطريق) كأنّما يتلاقى طرفاه مع أنّ تلاقي طرَفي الشارع في نهاية مدّ البصر ليس بحقيقة لكنّ العقل يهتدي إلى نفي ذلك.
أو ترى النار الجوّالة التي يديرها اللاعب بيده تراها حلقة ناريّة مع أنّها في الحقيقة ليست حلقة ناريّة فهذه من أخطاء الحس التي يميّزها العقل على كلّ حال فعندما يقال بأنّ أداة الحس والعقل معصومتان يعني إذا قُوِّمتا بموازين مُتقنة.
الوهمُ والخيال
كذلك الحال في الأداة الوهميّة والأداة التخيّليّة المتصرّفة إذا سخَّرت إحداهما الأخرى فإنّهما غالباً ما تُركّبان صوراً من قريحتهما لا مساس لها بالواقع.
وقد يكون الوهم والخيال خادمَين للقوى العقليّة فيصيب الإنسان بها الحقيقة (نعم قد تخطِّئان الواقع إذا كانتا تُبديان من أنفسهما أفعالاً فكريّةً وتصرّفاتٍ في المعاني من دون استخدام العقل لها) ولكن مع استخدام العقل فإنّهما تصيبان الواقع.
فالخُرافة : فعلٌ من الأفعال الفكريّة والإدراكيّة والتصوّريّة تقوم بها المخيَّلة أو الواهمة من دون هداية العقل ويُذعن الجانب العملي (العمّالي) في النفس إلى تلك الصورة أو إلى ذلك الإدراك.
ثُمّ إنّ في النفس مشجّرة للطرفين:
طرف القوّة الإدراكيّة : التي تُدرِك المعلومات.
وطرف القوّة العمليّة : العمّالة.
وهناك أجنحة أُخرى في جهاز النفس لكنّ الذي يُعنينا في المقام هو هذان الجناحان : الجناح العملي والجناح النظري والإدراكي.
فالخُرافة إذاً مبدأها من فعل إدراكي خاطئ بتوسّط المخيّلة أو الواهمة يذعن لها الجانب العملي في النفس وتَبني عليها النفس عملاً وتُرتّب عليها آثاراً من دون أن يكون المَدرك صحيحاً.
وأداة الوهم والخيال إذا كانتا من دون هداية العقل وإراءته إليهما فالنتيجة تكون خاطئة ولكنّ بعض الأشياء لا ُتدرَك بالحس ولا بالعقل مع أنّها حقائق ؛ وإنّما يدركها الوهم والخيال بهداية العقل مثلاً : حبّ زيد بغض عمرو حُب الأم لطفلها البغض الخاص والحُب الخاص هذه تُسمّى معانٍ وهميّة لكنّها مطابقة للحقيقة ولها حقائق فلولا الوهم والخيال لم يصل الإنسان لإدراكها.
فلا يُحكم على كلّ شيء خيالي أو كلّ شيء وهمي أنّه غير مصيب وغير صحيح.
وقد تحصل بعض المغالطات حيث يُحكم بالخرافة على كلّ شيء يُدرك بالخيال والوهم فليس الخيالي يساوي اللاواقعيّة ويساوي الخطأ.
الخيال والوهم بدون هداية العقل واستخدام العقل يساوي الخرافة أو يساوي البطلان.
بخلاف ما يكون بهداية العقل مثل : بعض الحقائق التي لا يمكن أن يدركها الحس ولا العقل بل يدركها الوهم الصادق.
والدليل على ذلك : بعض المنامات الصادقة التي لا يدركها العقل ؛ لأنّها ليست تفكيراً بحتاً ولا يدركها الحس أيضاً وتكون صادقة في الجملة.
والمُدرَكات العقليّة ليس لها صورة : طول وعرض وعمق وليست نقوشاً من رأس إذ المعاني العقليّة معاني مجرّدة مصمتة مكبوسة بل ظهور تلك المعاني العقليّة يكون بتوسّط الخيال أو الوهم بتخطّطات مقداريّة أو بتشخّص خواصّ جزئيّة معيّنة كما هو الحال في الرؤيا المناميّة الصادقة فالكثير منّا قد صادفَ في حياته أن رأى رؤيا صادقة طابقت الخارج أو قل : كما هي الحال في رؤيا الأنبياء التي ليس فيها تخلّف.
الرؤيا الصادقة المصوَّرة إنّما يدركها الإنسان بأداة الخيال حيث إنّ الحس ينعدم في النوم فلا يحس النائم شيئاً وهذه المعلومات تنزل على الإنسان ـ كما يقال ـ من الباطن لا من الخارج وليست الرؤيا من تصنّع وتسويل النفس إذ النفس لا تَدرك المستقبليّات من لدن ذاتها ـ في حال النفوس العاديّة ـ فمن أين أتت هذه الرؤيا الصادقة وبأيّ أداة أدركها الإنسان ؟ وكما ذَكرنا من أمثلة حبّ الأم وبغض العدوّ وما شابه ذلك من المعاني التي يحتاج الإنسان لها في أصل عيشه وإلاّ لمَا قامَ عيشٌ ولا استقامت حياة بدونها.
فالقول : إنّ كلّ شيء خيالي أو وهمي يساوي اللاواقعيّة أو الخرافة هو مغالطة نعم قوّة الخيال أو قوّة الوهم إن تجرّدت عن العقل فحينئذٍ تكون خرافة ولا واقعيّة.
أمّا إذا استُخدِمتا من قِبل القوى العاقلة فيدرك الإنسان بها شطراً وافراً من الحقائق التي لا يمكن له أن يعيش بدونها في هذه النشأة أو حتّى في النشآت الأخرى.
والوهم ألطف من الخيال فهو من عالَم ونشأة أخرى ومعانيه مجرّدة عن الطول والعرض والعمق وإن كان له تشخّصات معيّنة بالإضافة إلى الجزئيّات المادّيّة.
فاصطلاح الوهم والخيال في العلوم العقليّة ليس بمعنى ما لا حقيقة له كي تقع فيه المغالطات ؛ إنّما القوّة الواهمة أو الخياليّة إذا لم تُوجّه ولم تُستخدم من قِبل العقل فإنّها ستُخطئ الواقع غالباً وكثيراً.
وبذلك يتبيّن موضوع الخُرافة وإنّها بتوسّط أيّ قوةٍ من قوى النفس يمكن أن تُدرك.
وإذا كان شيء ما خرافة فيجب على الإنسان أن يهمله وأن لا يرتّب عليه آثار الحقيقة ؛ لأنّ اللازم أن لا يعتدّ بها الإنسان كحقيقة فضلاً عن أن يتديّن بها أو يداين بها أو يعظّمها أو يقدّسها أو يُجلّها.
التضادّ بين الشعائر والخرافة
فهذه مقولة الخُرافة وحكمها أمّا العلاقة بين قاعدة الشعائر الدينيّة وحكم العقل في إبطال وتسفيه الخرافة وادّعاء وجود موارد الاجتماع والتصادق بينهما.
فالشعيرة ـ كما عرفنا فيما سبق ـ: هي عبارة عن الدلالة والمعلَم للمعنى الديني فإمّا أن يتسرّب البطلان واللاحقيقة إلى العلامة أو إلى ذي العلامة والبطلان الذي يتسرّب ويتخلّل إليها إمّا من جهة أنّها ليست لها علاميّة لذلك المعنى ـ يعني إمّا في العلامة بحيث لا علاميّة لها على ذلك المعنى ـأو يدبّ الإشكال ويسري في نفس المعنى (الذي هو ذو العلامة).
فالمعاني الدينيّة إذا كانت معانٍ قام الدليل عليها سواء الدليل القطعي الضروري الديني أو الدليل النقلي الظنّي المعتبر فالحكم بأنّها خرافة أو لا حقيقة لها يكون تصادماً مع الدليل الشرعي وخلاف الفرض نعم إذا كان هناك معنىً من المعاني جزئيّاً أو متوسّطاً ـ وما أكثر المتوسّطات ـ أو كلّيّاً لم يقُم عليه دليل معيّن فيمكن أن يوصف بذلك.
ومن جهةٍ أخرى : فإنّ عدم الدليل غير دليل العدم فهناك تارة شيء لم يقم عليه الدليل وهناك تارةً أخرى شيء قام الدليل على عدمه فلا ريب حينئذٍ في عدم واقعيّته فيتصادق ويتّفق مع الخرافة مثل : الأديان الوثنيّة أو الأديان الأخرى الباطلة ومثل هذه الأديان تُعتبر شعائرها باطلة وخرافيّة ؛ لأنّ شعائرها علامات ومعالِم على معانٍ ليست واقعيّة بل منحرفة وخاطئة وتخيّليّة ووهميّة ـ مثل : الثنويّة في الخالق والثنويّة في ربّ الوجود ولا ريب في زيف هذه المعاني فمن ثُمّ الشعائر الدينيّة لهذه الأديان باطلة خرافيّة من هذه الجهة.
فهذه المعاني التي في الشريعة إن قام عليها الدليل ـ ولو الدليل العام ـ فلا يصح أن يصدق عليها الخرافة.
فعمدة الكلام في التحرّي والتحقيق والتثبّت في ماهيّة المعنى الذي تعكسه تلك الشعيرة ثُمّ نتحرّى عن الدليل عليه أمّا إطلاق عبارة الخرافة من دون التدليل على ذلك فهو أشبه بالمغالطة أو الإبداع ولا بدّ لكلٍّ من النافي أو المُثبت أن يستدلّ على مدّعاه.
فدعوى الخرافيّة في جنبة المعنى تتوقّف على إقامة الدليل على بطلان ذلك المعنى المعيّن أمّا إذا كان ذلك المعنى معزّزاً ومؤيّداً بالدليل فحينئذٍ تكون دعوى الخرافيّة فيه غير مقبولة والغرض من التطرّق لبحث الخرافة الذي يواجه قاعدة الشعائر الدينيّة قديماً وحديثاً : أنّه إن كان يعترض بذلك في طرف وجنبة الموضوع فلابدّ من النظر في ذلك المعنى كي يتبيّن مدى وجود التقاء ـ من جهة المعنى ـ بين الشعيرة والخرافة.
وأمّا في جنبة نفس الشعيرة : فقد يُتوهّم إطلاق الخرافة لكنّ العلامة ـ بما هي علامة ـ لا يصدق عليها خرافة إذ المفروض أنّ الخرافة هي المعنى الذي ليس له حقيقة أمّا العلامة في نفسها فليست من سنخ المعنى فكيف نتصوّر فيها الخرافة هذا ممّا لا يمكن أن يُتصوّر.
حيث إنّ هذه الشعيرة لها دلالات على معانٍ معيّنة والمعاني قد تكون باطلة وغير صحيحة وبالتالي تكون خرافيّة أمّا الشعيرة في نفسها فليست لها وظيفة إلاّ الدلالة على معنى والإشارة إلى محتوى فحسب نعم قد تكون بعض الشعائر كعلامات ودلالات غير متناسبة مع المعنى الشامخ الذي وضِعت هي له أو تكون موجِبة لتضعضعه وهذا أمر آخر غير الخرافيّة بل هو محذور الهوان والاستهانة.