شبهات و ردود

ظهرت في الآونة الأخيرة عند بعض أهل الخلاف ـ وخصوصاً المتطرِّفين منهم ـ دعوى أنْ قتلة الإمام الحسين (عليه السلام) هم : من شيعته .
ولا يخفى أنّ الهدف والغاية من إلصاق هؤلاء المتطرِّفين هذه التهمة بالشيعة ، هي : تبرئة أسيادهم آل أبي سفيان من وصمة العار التي تلاحقهم أبد الدهر وتجعلهم في مزابل التاريخ .
وأيضاً إبعاد الناس عن اتِّباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) إذ لا يوجد من يتَّبعهم ويسلك سبيلهم ويعتقد بإمامتهم من الله سوى الشيعة .
فإذا ابتعد الناس عن الشيعة ، ابتعدوا عن مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، واقتربوا من أعدائهم من بني اُميّة ومواليهم ومَن حذا حذوهم .
ولا يخفى أنّ قتل الإمام الحسين (عليه السلام) من تبعات ما أسَّسه أوائلهم وأخذوه قاعدة في مدرستهم ، وهو القول بأنّ الخلافة بيد الناس ، لا بالنصّ من الله على لسان رسوله (صلّى الله عليه وآله) ، وهو قول لا يمكن أنْ يقبل به عاقل ؛ إذ كيف لله الرحيم واللطيف الخبير والمحيط بما يحتاجه الناس في أمور معاشهم ومعادهم أنْ يتركهم سدى مع أنّه لمْ يترك لهم واقعة إلاّ وجعل فيها حكماً حتّى كيفيَّة الجلوس في الخلاء وكيفيَّة النوم وكيفيَّة المشي وغيرها ؟ ففي جميع المعاملات ـ الفرديّة والاجتماعيّة التي تكون بين الفرد ونفسه ، أو بينه وبين ربِّه أو بينه وبين بني جنسه ـ له منهاج وطريق يأخذ بالفرد والاُمَّة إلى السعادة الأبديَّة والحياة السرمديَّة .
فلا يعقل أنْ يجعل الله الحكيم الناس يتخبَّطون وينحرفون عن الجادَّة بحيث يكفِّر بعضهم بعضاً ، ويقتل بعضهم بعضاً ، ويلعن بعضهم بعضاً ، حتّى قتلوا ابن بنت نبيِّه محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، باسم خليفة نبيِّه (صلّى الله عليه وآله) ، وتعدَّوا على أهل بيته (صلّى الله عليه وآله) بجميع أنواع التعدي باسم خليفة نبيّه (صلّى الله عليه وآله) أيضاً ، مع أنَّه لا يختلف اثنان في أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وله من الفضل والشرف والمكانة عند الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله) ما لا يخفى حتّى على غير المؤمنين برسول الله (صلّى الله عليه وآله) فكيف بالمسلمين؟
ومع ذلك انُتهكت حرمة الرسول (صلّى الله عليه وآله) باسم خليفته ، وحصل الهرج والمرج والتلاعب بالمقدَّسات الإسلاميَّة باسم خليفة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، بل ما جرى على الاُمَّة ويجري من تشتُّت المسلمين وتفرُّقهم على طوائف متنافرة إنّما هو بسبب عدم اتِّباعهم ما تمليه عليهم عقولهم ونصوص رسولهم (صلّى الله عليه وآله) ، حيث اعتقد أغلب المسلمين بأنّ الله لمْ ينصب خليفة بعد رسوله (صلّى الله عليه وآله) .
فهل يرضى العقلاء من الناس من سلطانهم أنْ يُسافر ولا يجعل له نائباً يُدير مملكته ويحفظها ؟ كلاّ وألف كلاّ ، بل الرجل منَّا لا يترك بيته وعياله لو أراد السفر بدون قيِّم يقوم مقامه ومدير يُدير شؤونهم ، ولو فعل ذلك لذمَّ وليم ووبِّخ أشدَّ التوبيخ على تقصيره وإهماله ، فكيف ينسب هذا إلى سيِّد العقلاء وخالقهم ؟
وانظر بأم عينك إلى جميع المؤسسات والشركات وغيرها تَرَ تنصيب أصحابها نائباً لهم إذا غابوا ليُدير ما كانوا يُديرونه ويحفظ ما كانوا يحفظونه .
وهذا الأمر الوجداني ليس الباعث له إلاّ العقل وحسن السليقة والحكمة .
فهل يُعقل من الله العدل الخبير الحكيم أنْ لا ينصّب هادياً ترجع إليه الاُمَّة ؟
بعد رسوله (صلّى الله عليه وآله) كما هو في الاًُمم السابقة ؛ إذ لكلّ نبيِّ أوصياء يحفظون الدين من بعده ويقيمون الحقَّ على نهجه .
وبهذا تعرف أنّ كلّ ما جرى ويجري على الأمَّة نتيجةٌ لمَا أسَّسه الأوائل من عدم اتِّباع الخليفة الذي نصَّ عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بأمره سبحانه وتعالى بجعل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) خليفةً وإماماً من بعده .
فلينظر المسلم بعين الاعتبار الأخبار والآيات في ذلك، وليسأل المؤمن نفسه سؤالاً بسيط : لو أراد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنْ ينصّب خليفة من بعده فما الذي كان عليه أنْ يقول ويفعل كي ينصبّه ؟
فإنّه سيجد الجواب الذي لا تعتريه شبهة ولا ارتياب في تلك الآيات والأخبار ، ولا يعذر بجهله يوم القيامة : {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [الأنعام : 149].
فإنَّه مسؤول عمَّا جاء في كتاب الله الكريم وأقوال نبيِّه العظيم (صلّى الله عليه وآله) وأفعاله من النصّ على خليفته والهادي من بعده (صلّى الله عليه وآله) .
وبهذا يعلم أنّ كلّ ذلك بسبب مَن تقمَّص تلك الخلافة بغير حقّ ، وادَّعى له فيها نصيباً وأنّ الويلات النازلة على الإسلام إلى يومنا هذا بسبب مخالفة الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله) بتركهم الخليفة الواجب اتِّباعه .
وقد جاء من بعد أولئك أناس أخذوا على عاتقهم الدفاع المستميت عن أسيادهم ، وذلك بتمحُّل مبررات لهم لا تُغني عن الحقِّ شيئ ، وبتبرئتهم بإلقاء تبعاتهم على الشيعة ، فنسبوا الضلال إلى الشيعة ، وقالوا إنّهم مَن خالف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، مع أنّ موروث أهل الخلاف الروائي والتاريخي وغيره ـ فضلاً عمّا
يتمسك به الشيعة من مصادرهم التشريعيّة والاعتقاديَّة ـ كفيل بدفع هذه التهم بشبهاته بل وكفيل أيضاً بإثبات ما عليه الشيعة من الحقِّ الواضح الذي لا يعتريه ريب إلاّ عند من طبع الله على قلبه فلا يعقل شيئاً .
فصار الشيعة عند هؤلاء موضعاً لإلقاء التهم بكلّ أشكاله ، وممّا نسبوه للشيعة قتل ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
وقد كادت هذه الشبهة ـ مع سخافتها ـ تنطلي على كثير من عوام أهل الخلاف ، ولا أدري كيف انطلت هذه الخزعبلات على الكثير مع وضوح افترائه ، بل وعدم تصوُّرها ؟!
مع أنّ السلف من أهل الخلاف لمْ ينسبوا هذه التهمة إلى الشيعة ، بل إنّهم لمْ يتوهموا نسبتها لهم ، وذلك لمَا قلنا من عدم تصوُّر أنّ قتلة الإمام الحسين (عليه السلام) هم شيعته .
مناقشة الشبهة
فما أدري ما أقول في دفع هذا المقول ! إذ كيف يقاتل شيعةُ أهل البيت (عليهم السلام) أهلَ البيت (عليهم السلام) ؟! وكيف يتصوَّر ذلك مع أنّ لفظ الشيعة من المشايعة ، وهي : المتابعة والنصرة ؟ فإذا انتفت النصرة والمتابعة خرجوا عن كونهم شيعةَ مَنْ تركوا نصرته ومتابعته .
فلهذا ترى المعنى اللغوي للشيعة يرفض هذه الشبهة ، وكذا المعنى الاصطلاحي على لسان علماء أهل الخلاف أنفسهم ، وأيضاً السير التاريخي يرفضها بشدَّة ويبيِّن حماقة أصحابها .
معنى الشيعة في اللغة والاصطلاح يدفع الشبهة
معنى المشايعة المتابعة والموالاة ، والشيعة هم الأتباع والأنصار ، وقد جاء بهذا
المعنى في القرآن الكريم في قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ } [الصافات : 83] ، وقوله تعالى : {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص : 15] .
وقال ابن دريد المتوفَّى سنة 321 : فلان من شيعة فلان ، أي : ممّن يرى رأيه . وشيَّعت الرجل على الأمر تشييعاً إذا أعنته عليه ، وشايعت الرجل على الأمر مشايعة وشياعاً إذا مالأته عليه .
وقال ابن منظور :
والشيعة : القوم الذين يجتمعون على الأمر ، وكلُّ قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة ، وكلُّ قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيع .
قال الأزهري : ومعنى الشيعة الذين يتبع بعضهم بعضاً وليس كلّهم متّفقين ، قال الله عزَّ وجلَّ : {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام : 159] ، كلّ فرقة تكفِّر الفرقة المخالفة له ، يعني به اليهود والنصارى ؛ لأنّ النصارى بعضهم يكفِّر بعض ، وكذلك اليهود ، والنصارى تكفِّر اليهود واليهود تكفِّرهم وكانوا أمروا بشيء واحد.
وفي حديث جابر لمَّا نزلت : {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام : 65] . قال رسول الله (صلَّّى الله عليه وآله) : (( هاتان أهون وأيسر )) . الشيع : الفرق ، أي : يجعلكم فرقاً مختلفين .
وأمَّا قوله تعالى : {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ } [الصافات : 83] ، فإنّ ابن الأعرابي قال : الهاء لمحمّد (صلَّّى الله عليه وآله) ، أي : إبراهيم خَبَر مَخْبَرَه فاتَّبعه ودعا له . وكذلك قال الفراء ، يقول : هو على منهاجه ودينه ، وإن كان إبراهيم (عليه السلام) سابقاً له . وقِيل : معناه ، أي : من شيعة نوح (عليه السلام) ومن أهل ملَّته .
قال الأزهري : وهذا القول أقرب ؛ لأنّه معطوف على قصّة نوح (عليه السلام) ، وهو قول الزجاج .
والشيعة : أتباع الرجل وأنصاره ، وجمعها : شيع ، وأشياع جمع الجمع .
ويقال : شايعه ، كما يقال : والاه من الوَلْي . وحكي في تفسير قول الأعشى :
يُشَوِّعُ عُوناً وَيَجْتَابُها . . . . . . . . . . . .
يشوِّع : يجمع .
ومنه شيعة الرجل ، فإنْ صحَّ هذا التفسير فعين الشيعة واو ، وهو مذكور في بابه .
وفي الحديث : القدريَّة شيعة الدجَّال ، أي : أولياؤه وأنصاره .
وأصل الشيعة الفرقة من الناس ، ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد ومعنى واحد .
وقال ابن الأثير : ( شيع ) (هـ) فيه : القدريّة شيعة الدجال ، أي : أولياؤه وأنصاره . وأصل الشيعة الفرقة من الناس ، وتقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد ومعنى واحد . . . وتجمع الشيعة على : شيع . وأصلها من المشايعة ، وهي المتابعة والمطاوعة(1) .
وقال الزبيدي : وشيعة الرجل ـ بالكسرـ أتباعه وأنصاره ، وكلّ قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة . وقال الأزهري : معنى الشيعة الذين يتبع بعضهم بعضاً وليس كلّهم متّفقين ، وفي الحديث : القدريّة شيعة الدجَّال ، أي : أولياؤه .
وأصل الشيعة الفرقة من الناس على حدة ، وكلّ من عاون إنساناً وتحزَّب له فهو له شيعة ، قال الكميت ( رحمه الله ) :
ومالي إلاّ آلَ أحمـدَ شـيعةٌ ومالي إلاّ مشعبَ الحق مشعبُ
ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد ومعنى واحد(2) .
ولا يخفى على الملتفت أنّ الشيعة بهذا المعنى اللغوي العامّ يصدق على مَن بايعوا(3) أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، على أنّه الخليفة بعد عثمان بن عفّان ـ كما يتبيَّن لك ذلك ـ وإنْ لمْ يبايعوه على أنّه الخليفة بالنصّ من الله بعد رسوله (صلّى الله عليه وآله) ، وهؤلاء كثيرون جداً ، إذ جميع البقاع الإسلامّية ـ ما عدا الشام وأفراداً قليلين جداً من غيرها ـ بايعت أمير المؤمنين (عليه السلام) على أنّه خليفة رابع بعد عثمان ، ولا يمكن أنْ نقول إنَّ الشيعة ـ الذين اعتقدوا أنّ أمير المؤمنين خليفة بعد رسول الله (صلّى الله عليه و آله) بالنصّ وهو أفضل مَن عليها بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، كسلمان الفارسي وأبي ذر والمقداد وغيرهم ، ومَن حذا حذوهم إلى يوم القيامة من الشيعة الاثني عشريّة ـ مثل هؤلاء الشيعة الذين تابعوا وبايعوا أمير المؤمنين (عليه السلام) على أنّه خليفة رابع ، فها هم أهل الكوفة بايعوا أمير المؤمنين (عليه السلام) وتابعوه وصلَّوا خلفه ، ومع ذلك لمَّا نهاهم عن صلاة التراويح بإمام نادوا : واعمراه ! والشيعة لا يختلف اثنان في أنّهم لا يرون قول وسنّة عمر بن الخطاب فضلاً عن خلافته .
قال عبد الحميد المعتزلي : وقد رُوي أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لمَّا اجتمعوا إليه بالكوفة ، فسألوه أنْ ينصب لهم إماماً يصلّي بهم نافلة شهر رمضان ، زجرهم وعرَّفهم أنّ ذلك خلاف السنّة ، فتركوه واجتمعوا لأنفسهم ، وقدَّموا بعضهم ، فبعث إليهم ابنه الحسن (عليه السلام) فدخل عليهم المسجد ومعه الدرَّة ، فلمّا رأوه تبادروا الأبواب وصاحوا : واعمراه !(4) .
وكذا كلّ مَن بايع الإمام الحسن (عليه السلام) والإمام الحسين (عليه السلام) من أهل الكوفة وأهل المدينة وبقيّة الأمصار ؛ إذ بايعوا الإمام الحسن (عليه السلام) خليفة خامس ، والإمام الحسين (عليه السلام) خليفة سادساً أو سابع ، وأمَّا الشيعة بالمعنى الخاص فقليلون جد .
معنى الشيعة الخاصّ بلسان علماء أهل الخلاف يدفع الشبهة
ومعنى لفظ الشيعة عند علماء أهل الخلاف ، هو : كلّ مَن اعتقد بإمامة عليٍّ وأهل بيته (عليهم السلام) بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالنصّ من الله ، وأنّهم (عليهم السلام) أفضل الخلق بعد رسوله (صلّى الله عليه وآله) .
قال أبو الحسن الأشعري : وإنّما قِيل لهم الشيعة ؛ لأنّهم شايعوا عليّاً (عليه السلام) ، ويقدِّمونه على سائر أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)(5) .
وقال الشهرستاني : الشيعة هم الذين شايعوا عليّاً (عليه السلام) على الخصوص ، وقالوا بإمامته وخلافته نصّاً ووصية ، إمَّا جليّاً وإمَّا خفيّاً ، واعتقدوا أنّ الإمامة لا تخرج من أولاده ، وإنْ خرجت فبظلم يكون من غيره أو بتقيّة من عنده . وقالوا : ليست الإمامة قضيّة مصلحيّة تناط باختيار العامّة وينتصب الإمام بنصبهم ، بل هي قضيّة أصوليّة ، وهي ركن الدين لا يجوز للرسل عليهم الصلاة والسلام إغفاله وإهماله ، ولا تفويضه إلى العامّة وإرساله ، يجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص ، وثبوت عصمة الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) وجوباً عن الكبائر والصغائر ، والقول بالتولّي والتبرّي قولاً وفعلاً وعقداً ، إلاّ في حال التقيّة(6) .
وقال النوبختي: إنّ أوَّل فرق الشيعة هم فرقة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) المسمَّون شيعة عليّ (عليه السلام) في زمان النبي (صلّى الله عليه وآله) وبعده معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته(7) .
وقال ابن حزم الأندلسي : ومَن وافق الشيعة في أنّ عليّاً (عليه السلام) أفضل الناس بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأحقُّهم بالإمامة وولده من بعده ، فهو شيعي وإنْ خالفهم فيما عدا ذلك ممّا اختلف فيه المسلمون ، فإنْ خالفهم فيما ذكرنا فليس شيعيّاً(8) .
وقال ابن منظور : وقد غلب هذا الاسم الشيعة على مَن يتوالى عليّاً وأهل بيته (عليهم السلام) ، حتّى صار لهم اسماً خاصّاً ، فإذا قِيل : فلان من الشيعة ، عُرف أنّه منهم . وفي مذهب الشيعة ، كذا ، أي : عندهم . وأصل ذلك من المشايعة ، وهي المتابعة والمطاوعة . قال الأزهري : والشيعة قوم يهوون هوى عترة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ، ويوالونهم(9) .
وقال ابن الأثير : وقد غلب هذا الاسم ( الشيعة ) على كلِّ مَن يزعم أنّه يتولَّى عليّاً وأهل بيته (عليهم السلام) ، حتّى صار لهم اسماً خاصّاً ، فإذا قيل : فلان من الشيعة عرف أنّه منهم . وفي مذهب الشيعة ، كذا ، أي : عندهم . وتجمع الشيعة على : شيع . وأصلها من المشايعة ، وهي : المتابعة والمطاوعة (س)(10) .
ومنه حديث صفوان : إنّي لأرى موضع الشهادة لو تشايعني نفسي . أي : تتابعني(11) .
وقال الزبيدي : وقد غلب هذا الاسم ( الشيعة ) على كلّ مَن يتولَّى عليّاً وأهل بيته (عليهم السلام) حتّى صار اسماً لهم خاصّاً ، فإذا قيل : فلان من الشيعة عرف أنّه منهم . وفي مذهب الشيعة كذا ، أي : عندهم . وأصل ذلك من المشايعة وهي المطاوعة والمتابعة .
وقِيل : عين الشيعة واو ، من شوَّع قومه إذا جمعهم ، وقد تقدَّمت الإشارة إليه قريباً.
وقال الأزهري : الشيعة قوم يهوون هوى عترة النبي (صلَّّى الله عليه وآله) ويوالونهم(12) .
فبعد وضوح أنّ للفظ الشيعة معنيين لغوياً عامّاً واصطلاحياً خاصّاً يتّضح أنّ مَن خرج على الإمام الحسين (عليه السلام) لا يصدق عليه أنّه من شيعته ومتَّبعيه وناصريه على كلا هذين المعنيين(13) ، بل يصدق عليه أنّه من شيعة مَن خرج لنصرته .
ومتابعته وهم بنو اُميّة ، فأغلب مَن خذل وخرج على الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) من شيعة بني اُميّة ، وجميع مَن بايع الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) بايعهما على أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) خليفة خامس، والإمام الحسين (عليه السلام) خليفة سادس ، إنْ لمْ يقرَّ بالبيعة لمعاوية وإلاّ فخليفة سابع، لا على أنّهما الوصيان الثاني والثالث من أوصياء النبيِّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) .
دفع الشبهة بشواهد تاريخيّة
مضافاً لمَا تقدّم ـ من أنّ الذوق المستقيم والفهم السليم ، واللغة وأقوال علماء أهل الخلاف ، ترفض مثل هذه الخزعبلات والتهم التي يرمي بها أعداءُ مذهبِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) شيعتَهم ، بُغية التوصُّل إلى مآربهم الشيطانيّة ـ أنّ الشواهد التاريخيّة والعقلائيّة خير شاهد لنفي ما يَصْبُون لإثباته ، فنذكر شيئاً منها تباع :
الأمر الأوّل : ما ذكروه في كتبهم إلى الإمام الحسين (عليه السلام)
روى الطبري والبلاذري ، وابن الأثير وابن كثير واللفظ للأوّل ، قال ، قال أبو مخنف : فحدَّثني الحجاج بن عليّ ، عن محمّد بن بشر الهمداني ، قال : اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد فذكرنا هلاك معاوية ، فحمدنا الله عليه ، فقال لنا سليمان بن صُرد : إنّ معاوية قد هلك ، وإنّ حسيناً (عليه السلام) قد تقبَّض على القوم ببيعته ، وقد خرج إلى مكّة ، وأنتم شيعته وشيعة أبيه ، فإنْ كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه ، وإنْ خفتم الوهل والفشل فلا تغروا الرجل من نفسه . قالوا : لا ، بل نقاتل عدوَّه ونقتل أنفسنا دونه . قال : فاكتبوا إليه . فكتبوا إليه :
بسم الله الرحمن الرحيم
لحسين بن عليّ (عليهما السلام) من سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة ، ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر ، وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة ، سلام عليك ، فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أمَّا بعد : فالحمد لله الذي قصم عدوَّك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الاُمّة فابتزَّها أمرها ، وغصبها فيأها ، وتأمَّر عليها بغير رضىً منها ، ثمّ قتل خيارها ، واستبقى شرارها ، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها ، فبعداً له كما بعدت ثمود ، إنّه ليس علينا إمام ، فأقبل لعلَّ الله أنْ يجمعنا بك على الحقِّ ، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ، ولا نخرج معه إلى عيد ، ولو قد بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشام إنْ شاء الله ، والسلام ورحمة الله عليك .
قال : ثمّ سرَّحنا بالكتاب مع عبد الله بن سبع الهمداني ، وعبد الله بن وال ، وأمرناهما بالنجاء(14) ، فخرج الرجلان مسرعين حتّى قدما على حسينٍ (عليه السلام ) لعشر مضين من شهر رمضان بمكّة(15) .
أقول : إنّ قولهم في هذا الكتاب : إنّه ليس علينا إمام ، فأقبل لعلَّ الله أنْ يجمعنا بك على الحقِّ(16) أو الهدى ، يدلّ بوضوح على أنّ القوم يريدون مبايعة الإمام الحسين (عليه السلام) على الإمامة الإداريّة والسياسيّة ـ إنْ صحَّ التعبير ـ كما بُويع غيره ، لا الإمامة الإلهيّة في شؤون الدين والدنيا .
وبعبارة أخرى : أنّ القول المذكور يدلّ على أنّهم ليسوا ممّن يعتقدون بأنّه الخليفة من الله بالنَّص ، كما هي عقيدة الشيعة بالمعنى الخاصّ ؛ إذ الشيعة لهم أئمّة معروفون منصوبون من الله بعد رسوله (صلّى الله عليه وآله) في أمور الدين والدنيا إلى اليوم المعلوم ، فلو كانوا من الشيعة بالمعنى الخاصّ لمَا قالوا : ليس علينا إمام ، ولمَا قالوا : لعلّ الله أنْ يجمعنا بك على الحقّ ؛ لأنّهم يعتقدون عصمته ، فلا يصدر منهم هذا القول قطع ، فإنّه لا يصحّ أنْ يقال في حقّ مَن ثبتت بالقطع عصمته كالنبيِّ والرسول (صلّى الله عليه وآله) ، ومَن يقوم مقامه من أئمّة الهدى ومصابيح الدجى (عليهم السلام) .
نعم ؛ يصحّ منهم هذا إذا كان أكثر الناس المبايعين آنذاك عقيدتهم في الإمامة على ذلك ؛ فلا يستطيعون التصريح بخلافها لمَا فيه من نفي خلافة الأوّل والثاني والثالث ، وهو ليس بالأمر البسيط ، وهذا يثبت أيضاً أنّ الكثرة الكاثرة ممّن بايع الإمام الحسين (عليه السلام) هم من غير الشيعة بالمعنى الخاصّ .
وأيضاً ما رواه ابن كثير والطبري وابن الأثير ، واللفظ للأول ، قال : وكتب إليه شبث بن ربعي وحجار بن أبجر ، ويزيد بن الحارث ويزيد بن رويم ، وعمرو بن حجاج الزبيدي ، ومحمّد بن عمر بن يحيى التميمي ، أمّا بعد : فقد اخضرَّتْ الجنان وأينعت الثمار ولطمت الجمام ، فإذا شئت فأقدم على جند لك مجنَّدة ، والسلام عليك.
فاجتمعت الرسل كلّها بكتبها عند الحسين (عليه السلام) ، وجعلوا يستحثُّونه ويستقدمونه عليهم ليبايعوه عوضاً عن يزيد ابن معاوية ، ويذكرون في كتبهم أنّهم فرحوا بموت معاوية وينالون منه ، ويتكلَّمون في دولته وأنّهم لمَّا يبايعوا أحداً إلى الآن ، وأنّهم ينتظرون قدومك إليهم ليقدِّموك عليهم(17) .
فإنّ قوله : وجعلوا يستحثُّونه ويستقدمونه عليهم ليبايعوه عوضاً عن يزيد بن معاوية.
وقولهم : وأنّهم لمَّا يبايعوا أحداً إلى الآن .
وقولهم : وأنّهم ينتظرون قدومك إليهم ليقدِّموك عليهم .
يدلّ بوضوح على أنّهم لا يعتقدون بإمامته بالنصّ ، وأنّهم يريدون مجيئه إليهم وتقديمه عليهم لإدارة أمورهم ، ومَن كان هكذا لمْ يكن من الشيعة بالمعنى الخاصّ ، أي : الاثني عشريّة .
وأيضاً ما رواه اليعقوبي والطبري وابن كثير ، واللفظ للأوّل ، قال : وكتب أهل العراق إليه ، ووجَّهوا بالرسل على أثر الرسل ، فكان آخر كتاب ورد عليه منهم كتاب هانئ بن أبي هانئ ، وسعيد بن عبد الله الخثعمي :
بسم الله الرحمن الرحيم
للحسين بن عليّ (عليه السلام) من شيعته المؤمنين والمسلمين ، أمَّا بعد : فحيَّ هلا ، فإنّ الناس ينتظرونك ، لا إمام لهم غيرك فالعجل ثمّ العجل ، والسلام .
فوجَّه إليهم مسلم بن عقيل بن أبي طالب(عليه السلام) ، وكتب إليهم ، وأعلمهم أنّه إثر كتابه ، فلمَّا قدم مسلم الكوفة اجتمعوا إليه ، فبايعوه وعاهدوه وعاقدوه ، وأعطوه المواثيق على النصرة والمشايعة والوفاء(18) .
حيث إنّ قوله : فإنّ الناس ينتظرونك لا إمام لهم غيرك ، فالعجل العجل .
وقوله : فبايعوه وعاهدوه وعاقدوه ، وأعطوه المواثيق على النصرة والمشايعة والوفاء .
ممّا يدلّ على أنّهم بايعوه على النصرة والمشايعة والمتابعة لا على الاعتقاد بإمامته بالنصّ .
والخلاصة من نقل هذه الأقوال : أنّها تدلّ على أنّ مَن كتب إلى الإمام الحسين (عليه السلام) من أجل البيعة إنّما كانوا يريدون البيعة السياسية فقط ، وهي غير ما عليه عقيدة الشيعة بالمعنى الخاصّ .
فإنْ قلت : فما تقول في مَن كتب إليه من الشيعة الخلَّص كحبيب بن مظاهر وغيره رضوان الله عليهم ، فإنّهم من خواص الشيعة وقد تكلَّموا بهذه الأقوال أيضاً ؟
قلت : إنَّ هذا يندفع بملاحظة ما ذكرناه في أوَّل هذا الأمر من أنّ الشيعة الخاصّة لا يصحُّ منهم ذلك ؛ لمَا عرفت من المعنى الخاصّ للشيعة ، فيحمل على أنّه كلام بلسان الكثرة الكاثرة من أهل الكوفة ، أو كلام باعتقاد أغلب أهل ذلك الزمان ، بحيث لا يصحّ من الشيعة الخاصّة إظهار خلافه خوفاً وتقيّةً ، لمَا فيه من نفي خلافة الأوّل والثاني والثالث .
ولهذا عبَّر عنهم بالناس في قوله : فإنّ الناس ينتظرونك لا إمام لهم غيرك فالعجل العجل .
الأمر الثاني : دهاء ابن زياد
إنّ عبيد الله بن زياد داهية من الدواهي المنسوبة إلى بني اُميّة ، وهو يعمل جاهداً حتّى لا يصل أحد من الشيعة إلى إمامه الحسين بن عليّ (عليه السلام) لينصره في كربلاء ، وليس هو بالغبي حتّى يرسل إلى الإمام الحسين (عليه السلام) شيعته ، وهو يعلم بأنّ وصولهم له (عليه السلام) يقلب الموازين على بني اُميّة .
الأمر الثالث : اعتقال ابن زياد للشيعة وقتلهم ومنعهم من الوصول إلى الإمام
قد عمل ابن زياد جاهداً حتّى لا يصل أحد من الشيعة إلى نصرة الإمام الحسين (عليه السلام) .
فبدأ باعتقال الشيعة وزجِّهم في السجون أو قتلهم ، وخصوصاً مَن أراد نصرة مسلم بن عقيل (عليه السلام) ، ولو كان يريد أنْ يرسل الشيعة مع جيشه لمَا زجَّ بهم في السجون أو قتلهم .
ثمّ إنَّه قد جعل المراصد في الكوفة لاعتقالهم ، ومن اشتبه أنّه منهم فإنّه يختبر ويمحَّص حتّى يُعرف حاله ، ويُفعل به ما يًفعل من تعذيب وقتل ، وهذا دليل واضح على عدم إمكان تصوُّر أنَّ ابن زياد يرسل إلى الإمام الحسين (عليه السلام) شيعته .
فقد روى الطبري قال ، قال أبو مخنف : فحدَّثني أبو جناب الكلبي : أنّ كثيراً ألفى رجلاً من كلب يُقال له : عبد الأعلى بن يزيد ، قد لبس سلاحه يريد ابن عقيل في بني فتيان ، فأخذه حتّى أدخله على ابن زياد فأخبره خبره ، فقال لابن زياد : إنّما أردتك . قال : وكنت وعدتني ذلك من نفسك ، فأمر به فحبس .
وخرج محمّد بن الأشعث حتّى وقف عند دور بني عمارة ، وجاءه عمارة بن صلخب الأزدي وهو يريد ابن عقيل عليه سلاحه ، فأخذه فبعث به إلى ابن زياد فحبسه ، فبعث ابن عقيل إلى محمّد بن الأشعث من المسجد عبد الرحمن بن شريح الشبامي ، فلمَّا رأى محمّد بن الأشعث كثرة مَن أتاه أخذ يتنحَّى ويتأخَّر .
وأرسل القعقاع بن شور الذهلي إلى محمّد بن الأشعث : قد حلتُ على ابن عقيل من العرار ، فتأخَّر عن موقفه (19) .
وذكر الطبري أيضاً مقتل مَن اعتقلهم عبيد الله بن زياد من الشيعة ، فقال : ثمّ إنّ عبيد الله بن زياد لمَّا قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة دعا بعبد الأعلى الكلبي الذي كان أخذه كثير بن شهاب في بني فتيان فأُتي به ، فقال له : أخبرني بأمرك . فقال : أصلحك الله ! خرجت لأنظر ما يصنع الناس ، فأخذني كثير ابن شهاب .
فقال له : فعليك وعليك من الأيمان المغلَّظة إنْ كان أخرجك إلاّ ما زعمت . فأبى أنْ يحلف ، فقال عبيد الله : انطلقوا بهذا إلى جبانة السبيع فاضربوا عنقه به .
قال : فانطلق به فضُربت عنقه .
قال : وأخرج عمارة بن صلخب الأزدي ، وكان ممّن يريد أنْ يأتي مسلم بن عقيل(عليه السلام) بالنصرة لينصره ، فأتي به أيضاً عبيد الله ، فقال له : ممّن أنت ؟ قال : من الأزد . قال : انطلقوا به إلى قومه ، فضُربت عنقه فيهم(20) .
وأيضاً لقلَّة الشيعة وتفرُّقهم في البلدان ، وكونهم معروفين كتب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد : أنْ يجعلَ المراصد والمسالح كي لا يصلَ أحد من الشيعة إلى نصرة الإمام الحسين (عليه السلام) .
فقد روى الطبري ومحدّث الشام ، وابن الجوزي والخوارزمي وغيرهم كتاب يزيد لعبيد الله ، حينما بعث له عبيد الله برأسي مسلم بن عقيل (عليه السلام) وهانئ بن عروة رحمه الله ، واللفظ الأوّل قال ، قال أبو مخنف : عن أبي جناب يحيى بن أبي حيّة الكلبي ، قال : . . . فكتب إليه يزيد ، أمَّا بعد :
فإنّك لمْ تعدُ أنْ كنت كما أحبُّ ، عملت عمل الحازم ، وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش ، فقد أغنيت وكفيت ، وصدّقت ظنّي بك ورأيي فيك ، وقد دعوت رسوليك فسألتهما وناجيتهما فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت ، فاستوص بهما خير ، وإنّه قد بلغني أنّ الحسين بن عليّ (عليهما السلام) قد توجّه نحو العراق ، فضع المناظر والمسالح ، واحترس على الظنّ وخذ على التهمة ، غير ألاّ تقتل إلاّ مَن قاتلك(21) ، واكتب إليَّ في كلّ ما يحدث من الخبر ، والسلام عليك ورحمة الله(22) .
وفي مقتل الخوارزمي قال : وقد بلغني أنّ الحسين بن علي(عليه السلام) قد عزم على المصير إلى العراق ، فضع المراصد والمناظر والمسالح ، واحترس واحبس على الظنّ واقتل على التهمة ، واكتب في ذلك إليَّ كلّ يوم بما يحدث من خبر .
وقد امتثل ابن زياد ما أمره يزيد ، فقد روى البلاذري ، قال : ووضع ابن زياد المناظر على الكوفة لئلا يجوز أحد من العسكر مخافة إنْ يلحقَ بالحسين (عليه السلام) مغيثاً له ، ورتَّب المسالح حوله ، وجعل على حرس الكوفة والعسكر زحر بن قيس الجعفي ، ورتّب بينه وبين عسكر عمر بن سعد خيلاً مضمرةً مقدحةً ، فكان خبر ما قبله يأتي في كلّ وقت(23) .
وروى البلاذري أيضاً ، قال :
قالوا : ولمَّا بلغ عبيد الله بن زياد إقبال الحسين (عليه السلام) إلى الكوفة بعث الحصين بن تميم بن أسامة التميمي ، ثمّ أخذ بني جشيش بن مالك بن حنظلة صاحب شرطه ، حتّى نزل القادسيّة ، ونظم الخيل بينها وبين خفان ، وبينها وبين القطقطانة إلى العلع(24) .
أفبعد هذا يعقل من داهية مثل ابن زياد أنْ يخالف عقله وإمامه يزيد بن معاوية ، ويرسل الشيعة إلى إمامهم الحسين بن عليّ (عليه السلام) ؟!
الأمر الرابع : قلّة الشيعة في الكوفة آنذاك
لا يخفى أنّ الكوفة في هذا الزمان شيعية محضة ، وعرفت بالتشيُّع في أزمنة مختلفة في التاريخ ، ومن هذه الشهرة نفذ أصحاب الشبهة واتَّهموا الشيعة بقتل الإمام الحسين (عليه السلام) ؛ لأنّ المترسِّخ في الأذهان أنّ لفظة أهل الكوفة تساوي لفظة شيعة ، وغرض التهمة أنْ يخلِّصوا يزيد وأتباعه ومحبِّيه من وصمة العار التي تلاحقهم أبد الدهر ، حتّى زاد بعضهم فنصَّ على عدم مشاركة أهل الشام واليمن ومصر في قتال الإمام الحسين (عليه السلام) ، ـ يكاد المريب أنْ يقول : خذوني ـ مع وجود ما يدلّ على خلاف قوله ، كما سنذكره(25) .
ولكن هذا لا يخفى على ذوي العقول الواعية ، إذ قليل من التأمُّل يكفي ، ولكي يتّضح الأمر جيِّداً علينا أنْ نعرف مذهب أهل الكوفة في زمان شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) ، فنقول :
إنّ الشيعة بالمعنى الخاصّ فرقة قليلة جداً في ذلك الزمان ، ومع قلَّتهم كانت طائفة منهم تقطن الكوفة ، فهم بالنسبة إلى أهل الكوفة عدد قليل جداً ، ومَن راجع واطّلع على سكان الكوفة آنذاك وجد هذا المعنى ملموس .
ثمّ إنّ الكوفة بعد شهادة الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، وانتقال الإمام الحسن (عليه السلام) إلى المدينة ، وتسلُّم معاوية للسلطة ، كانت تحت إمرة بني اُميّة . وكان همُّ معاوية بن أبي سفيان حينما استتبَّ له الأمر التضييق على الشيعة وتفريقهم وإبعادهم عن الكوفة منذ سنة إحدى وأربعين ، كما يدلّ على ذلك كتاب معاوية إلى المغيرة بن شعبة عندما ولاه الكوفة في تلك السنة .
فقد روى الطبري ذلك في تاريخه ، قال :
قال هشام بن محمّد : عن أبي مخنف ، عن المجالد بن سعيد ، والصقعب بن زهير ، وفضيل بن خديج ، والحسين بن عقبة المرادي ، قال : كلٌّ قد حدَّثني بعض هذا الحديث فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث حجر بن عدي الكندي ( رحمه الله ) وأصحابه : أنّ معاوية بن أبي سفيان لمَّا ولَّى المغيرة بن شعبة الكوفة في جمادى سنة 41 هـ دعاه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمَّا بعد ، فإنّ لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ، وقد قال المتلمس :
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ومـا علـم الإنسـان إلاّ ليعلما
وقد يجزي عنك الحكيم بغير التعلُّم ، وقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة ، فأنا تاركها اعتماداً على بصرك بما يرضيني ، ويسعد سلطاني ويصلح به رعيتي . ولست تاركاً إيصاءك بخصلة : لا تتحم عن شتم عليٍّ (عليه السلام) وذمِّه ، والترحم على عثمان والاستغفار له ، والعيب على أصحاب عليٍّ (عليه السلام) والإقصاء لهم وترك الاستماع منهم ، وبإطراء شيعة عثمان رضوان الله عليه ، والإدناء لهم والاستماع منهم .
فقال المغيرة : قد جربت وجربت وعملت قبلك لغيرك ، فلمْ يذمم بي دفع ولا رفع ولا وضع ، فستبلو فتحمد أو تذم ، ثمّ قال : بل نحمد إنْ شاء الله(26) .
ثمّ جعل معاوية على الكوفة زياد ابن أبيه ، فلمْ يترك من شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) أحداً إلاّ قتله أو عذَّبه أو شرَّده إلاّ قليلاً ممّن لمْ يُعرف بالتشيُّع .
فقد روى الطبري ما يبيِّن ذلك عند ذكره ما جرى بين هانئ بن عروة ( رحمه الله ) وعبيد الله بن زياد ، قال :
فقال عبيد الله : يا هانئ ، أمَا تعلم أنّ أبي قدم هذا البلد ، فلمْ يترك أحداً من هذه الشيعة إلاّ قتله غير أبيك وغير حجر ؟ وكان من حجر ما قد علمت . . . (27) .
وقال عبد الحميد المعتزلي :
وروى أبو الحسن عليّ بن محمّد بن أبي سيف المدايني في كتاب الأحداث ، قال : . . . وكان أشدّ الناس بلاءً حينئذٍ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة عليّ (عليه السلام) ، فاستعمل عليهم زياد بن سميّة ، وضمَّ إليه البصرة ، فكان يتتَّبع الشيعة وهو بهم عارف ؛ لأنّه كان منهم أيّام عليّ (عليه السلام) ، فقتلهم تحت كلِّ حجر ومدر وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل وطرّفهم ، وشرَّدهم عن العراق ، فلمْ يبقَ بها معروف منهم . . . إلخ(28) .
ويدلّ على ذلك أيضاً ما سنذكره لك ، فيما يأتي تحت عنوان : حقائق تاريخيّة تبيِّن موقف الشيعة من مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) ، من أنّ مَن خرج في ثورة التوَّابين وثورة المختار ليسوا ممّن يسكن الكوفة فعلاً ، بل هم ممّن تجمَّعوا من أماكن متفرِّقة حتّى استعدُّوا ، فخرجوا لقتال بني اُميّة وأنصارهم من أهل الكوفة والشام ، وهذا يدلُّ أيضاً على قلَّة الشيعة في الكوفة .
الأمر الخامس : كثرة الاُمويّين وأتباعهم في الكوفة آنذاك
ويتّضح هذا بدلالات كثيرة نذكر منها ما يلي :
الدلالة الأولى :
أنّ موت معاوية بن أبي سفيان قريب جداً من نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) ، والكوفة كانت تحت إمرته وتدين بدينه ، ففيها الكثير الكثير من الموالين لهم ، ويكفي أنّ أغلب رؤساء قبائل الكوفة(29) الذين تأتمر القبيلة بأمرهم وتسير على دينهم إلاّ مَن شذَّ ، كانوا معهم ، ولا ريب أنّ تفرُّقهم عن الكوفة يحتاج إلى زمن طويل ، ولا يكون إلاّ بانهيار الدولة الاُمويّة .
الدلالة الثانية :
تعامل يزيد بن معاوية مع الكوفة في هذه الظروف التي كتب فيها الآلاف بالبيعة للإمام الحسين (عليه السلام) ، على أنّها تحت إمرته وسيطرته ، فقد قال لابن زياد : كتب إليَّ شيعتي من أهل الكوفة أنّ مسلم بن عقيل يجمع الجموع . ثمّ أمره بأنْ يذهب إلى الكوفة ، ويبحث عن مسلم بن عقيل ويقتله(30) .
فهذا يدلّ على وجود الكثير من أنصار بني اُميّة في الكوفة ، إذ لا تكون إمرة وسيطرة على مكان في ظروف استعدَّت فيها الآلاف لمخالفة ومقابلة بني اُميّة إلاّ بوجود العتاد والعدَّة المعتدِّ به .
الدلالة الثالثة :
أنّه لا يُعقل من مثل ابن زياد (لعنه الله) أنْ يأتي من البصرة إلى الكوفة بعدد قليل من الرجال ، في قبال الآلاف المؤلَّفة من أهل الكوفة(31) الذين كتبوا إلى الإمام الحسين (عليه السلام) ، إلاّ مع علمه بأنّ أهل الكوفة بأجمعهم موالون لبني اُميّة حتّى مَن كتب إلى الإمام الحسين (عليه السلام) إلاّ القليل منهم !
الدلالة الرابعة :
خطبة ابن زياد في جامع الكوفة بمجرَّد وصوله إليه ، إذ كيف تسنَّى له أنْ ينزل الجامع وينادي في الناس بالجماعة ـ قبل أنْ يفعل أيَّ شيء ـ ويحضر عنده ذلك الجمع الغفير ، ويهدِّدهم بالقتل والحرمان وغيره مع وجود الآلاف التي بايعت الإمام الحسين (عليه السلام) ؟!(32) .
فما ذلك إلاّ لوجود الآلاف المؤلّفة ـ من أنصار بني اُميّة ـ المستعدّة لنصرتهم ودفع الآلاف التي بايعت الإمام الحسين (عليه السلام) عنهم .
الدلالة الخامسة :
إرسال عبيد الله بن زياد عمرَ بن سعد بجيش عدده أربعة آلاف مقاتل من أهل الكوفة ، لقتال الديلم الذين استولوا على دستبي ، فهل جاء ابن زياد الكوفة إلاّ لقتال مسلم بن عقيل (عليه السلام) ، وقتال الإمام الحسين (عليه السلام) ؟ فإرسال جيش بهذا العدد في هذه الظروف يدلّ بوضوح على استتباب الأمر في الكوفة لبني اُميّة ، وكثرة أنصارهم فيه ؛ إذ لا تخضع الألوف إلاّ بالألوف(33) .
الدلالة السادسة :
خروج الآلاف المؤلَّفة من أهل الكوفة لقتال الإمام الحسين (عليه السلام) يدلّ بوضوح ـ إلاّ عند من أعمى الله قلبه ـ على أكثريّة الاُمويّين وأنصارهم في الكوفة ؛ إذ لا يُعقل من عبيد الله بن زياد أنْ يرسل شيعة الإمام الحسين (عليه السلام) إلى الإمام الحسين (عليه السلام) ، وهو يعلم بأنّ فعله هذا يقلب الموازين رأساً على عقب على بني اُميّة ، فجميع من خرج لقتاله (عليه السلام) هم من الاُمويّين وأنصارهم .
الدلالة السابعة :
أنّ عدد من قتله المختار (رحمه الله) ـ دون مَن هرب ـ كثير جداً ، حتّى قِيل إنّه قتل سبعين ألفاً(34) من قتلة الإمام الحسين (عليه السلام) غير مَن هرب ، ولا يُعقل ـ بمقتضى ما تقدَّم ـ أنْ يكون أولئك من الشيعة ؛ لعدم تصوُّر إرسال شيعة الحسين (عليه السلام) لقتاله .
قال سبط ابن الجوزي : ثمّ خرج المختار ، وكان يقول : . . . و والله ، لأقتلن بقتلة الحسين (عليه السلام) عدد مَن قتل على دم يحيى بن زكريا (عليه السلام) . . . (35) .
وكان الملاك عند المختار (رحمه الله) في قتل هؤلاء هو صدق الخروج على الإمام الحسين (عليه السلام) ، فقد روى الطبري ، قال : ونادى منادي المختار : أنّه مَن أغلق بابه ، فهو آمن إلاّ رجلاً شرك في دم آل محمّد (عليهم السلام) .
فسبعون ألفاً من أهل الكوفة الموالين لبني اُميّة ، غير مَن هرب ليس بالعدد القليل .
الدلالة الثامنة :
أنّ أهل الكوفة لمَّا هلك يزيد بن معاوية أرادوا أنْ يُقيموا خليفةً عليهم فاختاروا ـ وأنت تعلم بأنّ اختيار الخليفة لا يكون إلاّ من الأكثر ، أو ممّن يمثّل الأكثر كرؤساء القبائل ـ الملعون قاتل الإمام الحسين (عليه السلام) ، فهذا ممّا يبيِّن لنا مدى ابتعاد الشيعة عن الكوفة ، وكثرة غيرهم وسيطرتهم فيه ؛ إذ إنّ أهل الكوفة رفضوا بيعة عبيد الله بن زياد (لعنة الله عليه) ، وأرادوا أنْ يبايعوا الملعون عمر بن سعد قاتل الحسين (عليه السلام) ، إلاّ أنّ نساء همدان منعنَ من بيعته ، ثمّ بايعوا من أقرَّه ابن الزبير المقاتل لأمير المؤمنين (عليه السلام) والمعروف حاله مع أهل البيت (عليهم السلام) .
وهذا على أقلّ تقدير ممّا يدلّ على كثرة غير الشيعة في الكوفة ، وإلاّ لمنع الشيعة تلك البيعة لا النساء .
فقد روى المسعودي والطبري ، للأوّل ، قال :
فخلع أهل الكوفة ولاية بني اُميّة وإمارة ابن زياد ، وأرادوا أنْ ينصبوا لهم أميراً إلى أنْ ينظروا في أمرهم ، فقال جماعة : عمر بن سعد بن أبي وقاص يصلح له . فلمَّا همُّوا بتأميره أقبلت نساء من همدان وغيرهن من نساء كهلان ، وربيعة والنخع حتّى دخلنَ المسجد صارخات باكيات معولات يندبنَ الحسين (عليه السلام) ، ويقلنَ : أمَا رضي عمر بن سعد بقتل الحسين (عليه السلام) حتّى أراد أنْ يكون أميراً علينا على الكوفة ؟! فبكى الناس(36) وأعرضوا عن عمر . وكان المبرزات في ذلك نساء همدان ، وقد كان عليّ (عليه السلام) مائلاً إلى همدان مؤثّراً لهم ، وهو القائل :
فلو كنت بوَّاباً على باب جنَّةٍ لقلت لهمدان ادخلي بسلام(37)
وبعد هذا لا يستبعد ، بل يثبت أنّ الآلاف المؤلَّفة من أهل الكوفة الذين خذلوا الإمام الحسين (عليه السلام) ، وخرجوا لقتاله كلّهم من شيعة بني اُميّة ، ومن غير الشيعة المعتقدة بإمامة أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) وأبنائه المعصومين (عليهم السلام) بالنصّ من الله عزَّ وجلَّ .
الأمر السادس : تصريحات الإمام الحسين (عليه السلام) تدلّ على أنّهم ليسوا بشيعة منه : تسميته لهم بشيعة آل أبي سفيان .
قال الخوارزمي : فحالوا بينه وبين رحله فصاح الإمام الحسين (عليه السلام) بهم : (( ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان ! إنْ لمْ يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم هذه ، وارجعوا إلى أحسابكم ، إنْ كنتم عُرباً كما تزعمون ))(38) .
ومنها : تخصيصه شيعته بمَن قتل في نصرته .
فقد خصَّص شيعته بمَن قُتل في نصرته ، حيث قال (عليه السلام) : (( إنّ أهل الكوفة قتلوا مسلم بن عقيل (عليه السلام) وشيعته )) . فقد روى الخوارزمي في خطاب الإمام الحسين (عليه السلام) لابن الحرّ أنّه : حمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال (عليه السلام) : (( أمَّا بعد : يا بن الحرّ ، فإنّ أهل مصركم هذا كتبوا إليَّ ، وأخبروني أنّهم مجتمعون على أنْ ينصروني ، وأنْ يقوموا من دوني ، وأنْ يقاتلوا عدوِّي ، وسألوني القدوم عليهم فقدمت، ولست أرى الأمر على ما زعموا ؛ لأنّهم أعانوا مَن قتل ابن عمِّي مسلم بن عقيل وشيعته، وأجمعوا على ابن مرجانة عبيد الله بن زياد مبايعين ليزيد بن معاوية . . . ))(39) .
ومنها : دعاؤه في يوم عاشوراء بانتقام المختار له ولأوليائه ولشيعته .
فقد دعا يوم عاشوراء عليهم بانتقام المختار بن عبيد الله الثقفي (قدّس سرّه) له ولأوليائه وشيعته ، حيث قال (عليه السلام) : (( اللهمّ ، احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسنين يوسف ، وسلِّط عليهم غلام ثقيف (40) يسقيهم كأساً مصبرةً ، فلا يدع فيهم أحداً ، قتلة بقتلة وضربة بضربة ، ينتقم لي ولأوليائي وأهل بيتي وأشياعي منهم ؛ فإنّهم غرّونا وكذّبونا وخذلونا ، وأنت ربُّنا ، عليك توكلنا ، وإليك أنبنا وإليك المصير))(41) .
ومنها : قوله إنّهم كتبوا له ليتقربوا بقتله لابن معاوية .
قال البلاذري : وعرض الحسين (عليه السلام) على أهله ومَن معه أنْ يتفرَّقوا ، ويجعلوا الليل جملاً ، وقال (عليه السلام) : (( إنّما يطلبوني وقد وجدوني ، وما كانت كُتُبُ مَن كتب إليَّ ـ فيما أظنّ ـ إلاّ مكيدةً لي ، وتقرُّباً إلى ابن معاوية بي )) .
فقالوا : قبَّح الله العيش بعدك !(42) .
الأمر السابع : تصريح جيش يزيد بن معاوية ببغضه أمير المؤمنين (عليه السلام)
قد عرفت ممّا تقدّم أنّ شيعة الرجل أتباعه ومحبُّوه ، ومن جهة أخرى نلاحظ تصريحات قتلة الإمام الحسين (عليه السلام) بأنّهم ما قاتلوه (عليه السلام) إلاّ بغضاً منهم لأبيه ، وهل شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) مَن يبغضه ؟!
قال القندوزي الحنفي :
ثمّ دنا (عليه السلام) من القوم ، وقال : (( يا ويلكم ! أتقتلونني على سنَّة بدَّلتها ؟ أمْ على شريعة غيَّرتها ؟ أمْ على جرم فعلته ؟ أمْ على حقٍّ تركته ؟ )) .
فقالوا له : إنّا نقتلك بغضاً لأبيك(43) .
وفي نور العين ، قال الإسفرايني :
قال الراوي : ثمّ إنَّه خرج من الخيمة وركب جواده ، وحمل على القوم ، فانهزموا من بين يديه كالجراد المنتشر فرجع ، وقال (عليه السلام) : (( لا حول ولا قوَّة إلاّ بالله العليِّ العظيم )) . ثمّ رجع إليهم ثانياً ، وقال لهم (عليه السلام) : (( ويلكم ! على ماذا تقتلونني ؟ أعلى عهد نكثته ؟ أمْ على سنَّة غيَّرتها ؟ أمْ على شريعة بدَّلتها ؟ أمْ على حقٍّ تركتها ؟ )) . فقالوا : نقتلك بغضاً منَّا لأبيك . فعند ذلك غضب الحسين (عليه السلام) غضباً شديداً(44) .
ويؤكّد هذا ما رواه البلاذري من قول الإمام الحسين (عليه السلام) ، في ليلة عاشوراء لمَّا أذنَ لأصحابه بالانصراف بأنّ أغلب مَن كتب إليه ، إنّما كتب لأجل الغدر والفتك به تقرُّباً ليزيد بن معاوية (لعنهما الله) كما تقدّم في الأمر السابع من تصريحات الإمام الحسين (عليه السلام) .
الأمر الثامن : عقيدة جيش يزيد بن معاوية في الإمام الحسين (عليه السلام) من خلال أقوالهم
لا يخفى أنّ النماذج التي صرَّحت بعقيدتها في الإمام الحسين (عليه السلام) ، تكشف بظاهر الحال عن العقيدة الفاسدة لجيش يزيد بن معاوية (لعنه الله) بأكمله المبنيَّة على الجحود والإنكار والتضليل ؛ إذ ظاهر حال الجميع أنَّهم أقرُّوا هؤلاء المتكلِّمين على ما قالوه في الإمام الحسين (عليه السلام) ، لتصدّيهم لمَا هو أعظم من إقرارهم هؤلاء المتكلمين وهو قتله . ولمْ يبدِ أحد منهم اعتراضه على كثرتهم ، فمَن رادٍّ على الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه بالتهديد بالفتك ، ومن رادٍّ على أصحابه بالسبِّ ، ومن منكرٍ لقرابته من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ومن قائل إنَّه مارق من الدين لمخالفته إمامهم يزيد بن معاوية ! ومن قائلٍ إنَّه لا تقبل صلاته ، ومن قائل له : استعجلت بالنار ، ومن قائل له ـ والعياذ بالله ! ـ ولأصحابه إنّهم خبيثون . . . ، ومن قائلٍ له ـ والمستجار بالله ! ـ : الكذاب ابن الكذاب ! ومن قائل . . . ومن قائل . . . إلخ .
فهل يكون من شيعة الإمام الحسين (عليه السلام) مَن يقول هذه الأقاويل ؟
قال تعالى : {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ } [الأنبياء : 24]
وفي هذا كثير من الدلائل نذكر بعضاً منه :
الدلالة الأولى
ردُّهم وتوعُّدهم بالفتك بالإمام الحسين (عليه السلام) حينما أبدى لهم النصيحة وبيَّن لهم الحقّ ، وفي عقيدة الشيعة أنَّه لا يؤمن بالله إلاّ من اعتقد أنّ قول الإمام الحسين والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) ، هو قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( والرادُّ عليهم راد على الله )) . ولا توجد هذه العقيدة عند أحد ممّن يدَّعي الإسلام ، غير الشيعة المعتقدة بإمامتهم (عليهم السلام) بالنصّ من الله ، فمَن لمْ تكن عنده هذه العقيدة لمْ يكن من الشيعة .
وممّا يثبت ردَّهم وتوعُّدهم ما في ينابيع المودّة ، قال :
ثمّ قال الإمام الحسين (عليه السلام) لأعدائه : (( يا أهل الكوفة ، إنّ الدنيا قد تغيَّرت وتكدَّرت ، وأدبر معروفها ، وهي دار فناء وزوال ، تتصرَّف بأهلها من حال إلى حال ، فالمغرور من اغترَّ بها وركن إليها ، وطمع فيها .
معاشر الناس ، أمَا قرأتم القرآن ؟! أمَا عرفتم شرايع الإسلام ؟! وثبتم على ابن نبيّكم ، تقتلونه ظلماً وعدوان .
معاشر الناس ، هذا ماء الفرات تشرب منه الكلاب والخنازير والمجوس ، وآل نبيكم يموتون عطاشى ! )) .
فقالوا : والله لا تذوق الماء ØŒ بل تذوق الموت غصَّةً بعد غصَّة ØŒ وجرعةً بعد جرØ