شبهات و ردود

الجهةُ الأوّلى : الأدلّةُ الإجماليّة
في بداية كلّ بحث لابدّ أن يعثر الفقيه أو المجتهد على أدلّة معيّنة لعنوان البحث وهذه الأدلّة حسب قواعد علم الفقه والأصول لها ثلاثة محاور هي : الموضوع والمحمول والمتعلّق.
الموضوع : هو ما يُشار به إلى قيود الحُكم.
والمحمول : هو الحكم الشرعي إمّا وجوب أو حُرمة أو مِلكيّة أو غير ذلك بمعنى الحُكم الشرعي الشامل للحُكم التكليفي وللحُكم الوضعي.
المتعلَّق : وهو الفعل المطلوب حصوله في الخارج إذا كان الحُكم وجوباً أو الفعل اللازم تركه إذا كان الحكم حرمةً.
على سبيل المثال : في دليل : (إذا زالت الشمس فصلِّ) نلاحظ هذه المَحاور الثلاثة كالآتي:
الموضوع : هو الزوال.
والمحمول : الحُكم وهو الوجوب.
والمتعلّق : وهو صلاة الظهر.
ومِحور الموضوع الذي هو قيود الوجوب ويُطلق على قيود أيّ حكم تكليفي أو وضعي بأنّه : موضوع أصولي أو موضوع فقهي وفي مثالنا السابق يعتبر الزوال من قيود الوجوب.
فاللازم استعراض الأدلّة الواردة في قاعدة الشعائر وتقرير مفادها على ضوء هذا التثليث.
الطائفة الأولى من الأدلّة :
ـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2] .
قد ورد في الآية عموم لفظ الشعائر وهو حُكم من الأحكام القرآنيّة فلنتعرّف على موضوع ومتعلّق هذا المورد وعلى حكمه أيضاً.
الموضوع : هو الشعائر .
المتعلّق : هو التعظيم إن جُعِل الحُكم إيجابيّاً أو التهاون إن جُعِل الحكم تحريميّاً.
الحُكم : حرمة التحليل وحرمة التهاون ويمكن جعل الحُكم وجوب التعظيم.
ـ {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 27 - 30] .
هذا المقطع من الآية الشريفة (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ...) أدرجهُ كثير من العلماء ضمن آيات الشعائر أيضاً مع أنّه لم يرد فيه لفظة الشعائر والوجه في ذلك : هو الاعتماد على قاعدة معروفة ومشهورة لدى أساطين الفقه.
وهي أنّ الموضوع أو المتعلّق كما يمكن الاستدلال له بالأدلّة الوارد فيها العنوان نفسه أو المتضمّنة له أو مرادفاته كذلك يمكن الاستدلال له بالأدلّة الوارد فيها العنوان نفسه أو المتضمّنة له أو مرادفاته كذلك يمكن الاستدلال له بما يشترك معه في الماهيّة النوعيّة أو الجنسيّة أي المماثل أو المجانس بشرط أن يكون الحُكم مُنصبّاً على تلك الماهيّة وإلاّ كان التعدّي قياساً باطلاً كما يمكن الاستدلال له بالدليل الذي يتضمّن جزء الماهيّة كذلك يمكن الاستدلال له بما يدلّ على اللازم له أو الملزوم له فتتوسّع دائرة دلالة الأدلّة الدالّة على المطلوب.
ففي هذه الآية الشريفة:
الموضوع : حُرمات الله.
المتعلّق : التعظيم.
الحكم : الوجوب أي : وجوب التعظيم.
ـ {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] .
وهذه من أوضح الآيات على إثبات المطلوب حيت تدلّ على محبوبيّة ورجحان التعظيم لشعائر الله حسب التقسيم الثلاثي المذكور من الموضوع والمتعلّق والحُكم.
ـ {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج: 36].
هنا وردت (مِن) تبعيضيّة والمعنى : أنّ البدن من مصاديق الشعائر.
ـ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] .
ـ {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] .
هذه الآية الشريفة تعرّضت للشعائر ولكن بصيغة المشعر.
هذه الطائفة من الأدلّة وافية في المقام وعلينا أن نسبر غَورها لنصل إلى المَحاور الأساسيّة فيها ولنتعرّف على مفادها ودلالتها.
الطائفةُ الثانية من الأدلّة :
هذه الأدلّة لم يرد فيها لفظ (الشعائر) إلاّ أنّ بعض العلماء والمحقّقين ذهبوا إلى استفادة حُكم الشعائر منها وهي :
ـ {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32] .
ومن سياق الآيات التي قبلها : (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الأَخِرِ..).
وآية : (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ..).
يُفهم أنّ الآيات بصدد بيان مسألة وجوب الجهاد وضرورة المعرفة الحقّة والتوحيد ونشر الدين وتبليغه..
ثُمّ بعد ذلك تُبيّن الآية : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) أهميّة النور الإلهي ومحاولات أعداء الدين لإطفاء ذلك النور ولكنّ الله سبحانه كتبَ على نفسه إحباط تلك المحاولات الشيطانيّة ويأبى سبحانه إلاّ إتمام النور ونشر الصلاح والهدى.
ففي هذه الآية الشريفة:
الموضوع : هو نور الله سبحانه وهو بدل لفظ (الشعائر) في آية (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ...) ونور الله سبحانه عام يشمل جميع الأحكام.
المتعلَّق : النشر والتبليغ والبيان وهو بدل التعظيم في تلك الآية.
والحُكم : وهو الوجوب وجوب النشر أو حرمة الإطفاء والكتمان.
فيكون هذا الدليل ـ كقضيّة شرعيّة ـ مرادفاً ومكافئاً للآية الشريفة : (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ).
ـ وهذا يعني أنّنا لا نقتصر في إثبات هذه القاعدة على الآيات من الطائفة الأولى من الأدلّة بل يمكن الاستدلال أيضاً بما يفيد مفادها أيضاً.
ـ {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور: 36] بملاحظة الآيات التي تسبق هذه الآية من سورة النور وهي : {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 34، 35] من سياق هذه الآيات يظهر أنّ المراد من لفظة (فِي بُيُوتٍ...) : هي البيوت التي فيها نور الله والمراكز التي تكون مصادر إشعاع الدين ومحالّ نشر الهداية والحق ومحطّات بيان أحكام الدين الحنيف.
وهذه (البيوت) النوريّة والباعثة للنور شاء الله وأراد أن تُرفع وتُكرّم وأن تُبجّل وتُحترم وينبغي أن يستمرّ ويدوم فيها ذِكر الله وعبادته وطاعته.
فهذه الآية من سورة النور مرادفة لآية تعظيم الشعائر ولآية (لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ...).
فالآية الشريفة تدلّ على وجوب نشر ورفع كلّ موطن ومركز ومحلّ يتكفّل ببيان أحكام الله وتعاليم رسالة السماء المكنّى عنه في الآية الشريفة بنور الله.
ومن ذلك يظهر أنّ الشعائر لا تختصّ بباب دون آخر فهي لا تختصّ بمناسك الحجّ ولا بالعبادات.
وإنّما تشمل كلّ ما فيه نشر لأحكام الدين وتعمّ جميع ما به بيان وتبليغ للمعارف الإسلاميّة المختلفة.
ـ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
هذه الآية تدلّ على أنّ حفظ الدين وحفظ ذِكر الله سبحانه وكذلك حفظ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الذي هو قوام الدين وحفظ ذِكر أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم العِدل الآخر للقرآن كلّ ذلك يُعتبر من الأغراض الشرعيّة العُليا للحق سبحانه وتعالى.
ـ {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40] .
بتقريب أنّ كلّ ما يؤول إلى إعلاء كلمة الله سبحانه وإزهاق كلمة الكافرين فهو من الأغراض الشرعيّة والمقاصد الدينيّة.
ـ {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] .
تُقرِّر الآية الكريمة وجوب التفقّه على المسلمين بعد الهجرة ثُمّ الرجوع إلى بلادهم ووجوب التبليغ والإنذار مُقدّمةً لحصول حالة الحذر فهذا الإنذار لنشر معالم الدين وترسيخ قواعده يُبيّن في الواقع ماهيّة الشعائر.
فهذه الآية (آية الإنذار) بمنزلة المُبيّن والمفسِّر لأحد أركان ماهيّة العناوين التي وردت في الألسنة الأخرى من الأدلّة وهو التبليغ والنشر للدين الحنيف.
ـ {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141].
لسان هذه الآية يوضِّح بُعداً آخر في حقيقة الشعائر حيث تتضمّن في متعلّقها جنبة أخرى غير الأحكام الأوّليّة ألا وهي جنبة ازدياد العلو والسُموّ للإسلام والمسلمين وهذه غير جهة الإعلام وإن كانت هي أحد نتائج الإعلام والنشر والإنذار.
فالبُعد الآخر الذي تتضمّنه قاعدة الشعائر الدينيّة : هو جنبة إعلاء كلمة الله سبحانه وإعزاز كلمة المسلمين.
وقد توفّرت الأدلّة في إثبات ذلك بقدر وافٍ.
الطائفةُ الثالثة من الأدلّة :
وقد استُدلّ أيضاً على هذه القاعدة بما وردَ في الأبواب الخاصّة من الأدلّة مثل : أدلّة خاصّة في مناسك الحج أو أدلّة خاصّة في الشعائر الحسينيّة وغير ذلك مثل : قول الصادق (عليه السلام) : (رحمَ الله مَن أحيا أمرَنا).
وقول النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (يا علي مَن عمّر قبوركم وتَعاهدها فكأنّما أعانَ سليمان بن داوود على بناء بيت المَقدس) وما شابه ذلك.
أو ما ورد على لسان العقيلة زينب الكبرى (عليها السلام) بالنسبة لعزاء سيّد الشهداء (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : (وسيوكِّل الله مَن يُجدّد له العزاء في كلّ عام) تلك العناوين خاصّة في أبواب خاصّة.
وهذا اللسان الثالث من الأدلّة هو عبارة عن أحكام خاصّة في الموارد الأخرى التي مفادها هو عين مفاد الشعائر من لزوم البثّ والإعلان.
فزبدة القول : إنّ لدينا ثلاثة أشكال من الأدلّة:
الأوّل : أدلّة عامّة وردَ فيها لفظ الشعائر.
الثاني : أدلّة عامّة ومطلقه يظهر منها جانب الإعلام والإعلاء للدين.
الثالث : أدلّة مختصّة ببعض الأبواب وتكون مرادفة لتعظيم الشعائر ولنشر الدين وإعلاء كلمته.
- أقوالُ العامّة والخاصّة حول هذه القاعدة
أقوالُ العامّة :
منها:
1 ـ عن عطاء أنّه فسّر الشعائر ـ سواء في الآية (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ...) أو الآية (لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ...) ـ ـ بأنّها جميع ما أمرَ الله به ونهى عنه أي جميع فرائضه ولم يُخصّصه ببابٍ دون باب .
2 ـ قال الحسن البصري : الشعائر شعائر الله : هو الدين كلّه هذا أيضاًَ قولٌ بالتعميم وهذا تعميم في الموضوع فهذان القولان يتّفقان على تعميم موضوع الشعائر.
3 ـ القرطبي في أحكام القرآن : يذهب إلى أنّ المراد من الشعائر هي جميع العبادات ولم يعمّمها لجميع أحكام الدين وإنّما خصّصها بالعبادات قال : جميع المتعبّدات التي أشعرَها الله تعالى أي جعلها أعلاماً للناس هذا قول آخر ، وهو يحدّد دائرة الموضوع .
4 ـ وهناك قول آخر لديهم : هو أنّ المراد من شعائر الله بقرينة السياق في الآيات الواردة في سورة الحج وفي أوائل سورة المائدة وتلك التي في سورة البقرة كلّها في سياق أعمال مناسك الحجّ فمن ثُمّ ذهبَ هذا القائل إلى أنّ المراد منها جميع مناسك الحجّ ليس إلاّ ولا تشمل هذه القاعدة بقيّة الأبواب هذا بالنسبة لزبدة أقوال العامّة.
أقوالُ الخاصّة :
أمّا بالنسبة لأقوال الخاصّة فلم نعثر على قول من أقوال الخاصّة يقيِّد القاعدة بمناسك الحج أو يُخصّصها بالعبادات عدا ما قد يظهر من الشيخ النراقي في عوائده بل دين علماء الخاصّة ـ كما يظهر من كلماتهم ـ القول بالتعميم فمثلاً:
1 ـ الشيخ الكبير كاشف الغطاء في كتابه (كشف الغطاء) ذهبَ إلى أنّ قبور الأئمّة (عليهم السلام) قد شُعِّرت فهي مشاعر ومن ثَمّ تجري عليها أحكام المساجد يَذكر ذلك في بحث الطهارة في مناسبة معيّنة في تطهير المسجد وحرمة تنجيسه وما شابه ذلك.
وقد تميّز الشيخ الكبير كاشف الغطاء بهذا الاستدلال عن بقيّة الأعلام بالإشارة إلى أنّ وجه إلحاق قبور الأئمّة (عليهم السلام) بالمساجد هو كونها شُعِّرت مشاعر فهو إذاً يذهب إلى أنّ المشاعر لا تختصّ بأفعال الحجّ ولا تختصّ بالعبادات بل تشمل دائرةً أوسع من ذلك.
وأيضاً في كتاب (منهاج الرَشاد لمَن أراد السداد) يشير الشيخ الأكبر كاشف الغطاء إلى هذه النكتة وهي تشعير قبور الأئمّة (عليهم السلام).
وكذلك يشير أيضاً إلى أنّ حُرمة المؤمن أيضاً من شعائر الدين فهو يعمِّم موضوع الشعائر.
2 ـ وأيضاً ذهبَ إلى التعميم : صاحب الجواهر في بحث الطهارة : في موضع حرمة تنجيس القرآن أو وجوب تطهير القرآن إذا وقَعت عليه نجاسة ويشير إلى أنّ حرمة الهتك ووجوب التعظيم شاملان لكلّ حُرمات الدين وعبارته : (وفي كلّ ما عُلمَ من الشريعة وجوب تعظيمه وحرمة إهانته وتحقيره ...) .
وهذا التعبير كأنّما اقتبسهُ صاحب الجواهر من الآية في سورة الحجّ : (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ..).
وبعد ذلك بآيتين : (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ..) كأنّما الآيتان متوازيتان في المعنى ومتعاضدتان في شرح بعضهما البعض.
3 ـ أيضاً من الكلمات التي يستفاد منها التعميم:
فتوى المحقِّق الكبير الميرزا النائيني التي صَدرت حول الشعائر الدينيّة.
وقد عُبّر عن الشعائر الحسينيّة بأنّها شعائر الله واستدلاله بالآية يُعمّم هذه القاعدة الفقهيّة ولا يُخصّصها بالمناسك ولا بالعبادات.
4 ـ المجاهد الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء قال بالتعميم ـ أيضاً ـ في فتاواه وفي كتبه وفي رسائل الأسئلة والأجوبة حيث يَذكر دخول الشعائر الحسينيّة في عنوان شعائر الله وفي شعائر الدين ووجوب تعظيمها بنفس الآية الكريمة.
5 ـ السيّد الحكيم (رحمه الله) في المستمسك في بحث الشهادة الثالثة حيث تمايلَ إلى وجوب الشهادة الثالثة (أشهد أنّ عليّاً وليّ الله ..) في الأذان والإقامة لا من باب الجزئيّة بل من باب استحباب الأمر باقترانها بالشهادة الثانية ومن ثُمّ طبّقَ عليها عنوان شعائر الله وبالتالي ذهبَ إلى وجوبها.
فباعتبار أنّ الحُكم الأوّليّ لها هو الاستحباب وإن كان بنحو التعميم إلاّ أنّها اتُّخذت شعاراً للمذهب والطائفة فذهبَ إلى حصول وتحقّق الشُعيرة بها فالذي يظهر منه ذهابه إلى تعميم شعائر الله وعدم تخصيصها بمناسك الحجّ ولا بالعبادات.
هذه بعض أقوال الخاصّة التي تعرّضت صريحاً إلى تعميم شعائر الله ولم نجد مَن يُخصّص الشعائر بخصوص مناسك الحجّ أو خصوص العبادات بل الجميع يُعمّم الشعائر إلى مطلق ما يُظهر المعالَم الرئيسيّة وينشُر أحكام الدين.
والمُتتبّع لفتاوى المتأخّرين في الشعائر الحسينيّة يلاحظ تعميم عنوان وقاعدة شعائر الله إلى عموم أبواب وأحكام الدين.
وقد نبّه الفقهاء الأعلام ـ ضمن استدلالهم على هذه القاعدة ـ إلى حقيقة وجود أدلّة أخرى بلسان آخر يرادف معنى ومدلول قاعدة الشعائر الدينيّة فآيات:
(لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ).
و (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) يرادفها من الآيات القرآنيّة كثير من الموارد وقد ذكرنا في الجهة الأولى أنّ الطائفتين الثانية والثالثة من الأدلّة تدلاّن على نفس مضمون قاعدة الشعائر.
فائدة
إنّ تتبّع الفقهاء للعثور على ألسِنة مختلفة ـ في مسألة واحدة ـ سواء كان مسألة وقاعدة فقهيّة أو قاعدة كلاميّة ؛ إنّما يحصل من أجل إعطاء الباحث الفقهي ، أو المستنبط الفقهي سعة في البحث ما لا يعطيه اللسان الواحد والدليل الفارد وربّما يحصل الاختلاف في اللسان الواحد هل هو باقٍ على حقيقته اللغويّة أو نُقل إلى الحقيقة الشرعيّة مثلاً ؟ هل هو مبهم أم مُجمل أم مبيّن ؟ هل فيه إطلاق أم لا ؟ وإلى غير ذلك من الحالات التي تنتاب اللسان الواحد في الأدلّة الشرعيّة بخلاف ما إذا عَثر الباحث أو الفقيه ـ أو حتّى المتكلم ـ على أدلّة متعدّدة محتوية على ألسِنة أخرى وقد تكون تلك الألسِنة متضمّنة لأرقام أجلى وأوضح بحيث لا يقع الاختلاف فيها وتختصر على الباحث الطريق للوصول إلى ضالّته.
ـ من ثُمّ ذكرنا أنّ الآيتين : {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف: 8] .
ـ و {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] .
استندَ إليهما الفقهاء ليس في بحث الشعائر فحسب بل في مسائل فقهيّة وعقائديّة وتاريخيّة أخرى في وقائع تحتاج لمواقف شرعيّة حازمة وصارمة.
وهي : وجوب نشر نور الدين ونور الإسلام ونور الله.
وقد ذكرنا سابقاً أنّ الفقهاء يلاحظون في كلّ دليل ثلاثة مَحاور :
محور الموضوع ومحور المحمول ومحور المتعلّق وإلاّ يكون البحث عقيماً فلابدّ من تمييز هذه المحاور الثلاثة بعضها عن بعض.
ولمّا كانت عناوين هذه المحاور تختلف من لسان إلى لسان آخر فلابدّ من تمييز الألسِنة وتصنيفها.
فبعد قيام الأدلّة المختلفة وتماميّتها يمكن القول : إنّ قاعدة الشعائر الدينيّة عبارة عن جملة من قوانين الإعلام في الدين الإسلامي لها أهمّيّتها ولها حكمها المتميّز والمغاير للأحكام الأخرى وليس كما فُسِّر من أنّ حكمها هو عين أحكام الدين أو أنّ الشعائر هي الدين كلّه ـ كما نقلنا ذلك ـ أو أنّها تختصّ بمناسك الحجّ أو غير ذلك.
فالشعائر لها حكم مغاير للأحكام الأخرى ومتعلّقه مغاير أيضاً وإن ارتبطَ وتعلّق بنحوٍ أو بآخر بالأحكام الأوّليّة بل هو حُكم آخر وهو نشر الدين وإعلام الدين.
كما ذكرنا أنّ قاعدة الشعائر هي بمثابة فقرة الإعلام في الفقه أو في الدين الإسلامي وبعبارةٍ أخرى : هي جانب النشر والإعلام للأحكام على غرار الإنذار في آية النفر حيث إنّ الإنذار واجب مستقل غير وجوب الصلاة الإنذار بالصلاة غير نفس الصلاة والإنذار بالحجّ ليس هو نفس مناسك الحجّ فبالإجمال نستنتج أنّ الشعائر لها موضوع ومتعلّق وحكم يتميّز ويختلف عن بقيّة الأحكام مضافاً إلى الغاية الأخرى التي دلّت عليها الآيات الشريفة وهي : إعلاء الدين وإقامة معالمه في النفوس والسلوك الاجتماعي ولا خفاء في الأثر التربوي البالغ لأسلوب الشعيرة وممارستها في عطاء هاتين الغايتين الساميّتين.
في معنى وماهيّة الموضوع (وهو الشَعائر) لُغةً
إنّ معرفة الحكم الإجمالي للشعائر يتوقّف على تحرير معنى الشُعيرة أو الشعائر في الوضع اللغوي فيجب التأمّل في العناوين الواردة في الأدلّة وهي إمّا : عناوين بموضوعات المسألة وقد تقدّم أنّ المقصود من الموضوع هو قيود الحُكم وقيود الحُكم في اصطلاح علم أصول الفقه من قبيل : الزوال لوجوب صلاة الظهر والخمر لحرمة شُرب الخمر.
وإمّا : عناوين بمتعلّقات الأحكام.
فلابدّ حينئذٍ ـ في أيّ مبحثٍ فقهي ـ من تحرّي معنى تلك العناوين الواردة هل هي باقية على وضعها اللغوي أو أنّها نُقلت إلى معنى وضعي آخر بوضع الشارع والذي يُسمّى في الاصطلاح بـ (الحقيقة الشرعيّة) ..
فإذاً بداية ما أفرزه البحث من استطراد الأدلّة : هو التأمّل في الألفاظ الواردة فيها هل هي باقية على وضعها اللغوي أو أنّها حقيقة شرعيّة ؟ ووجه أهميّة هذا الجانب : هو أنّه إذا كان العنوان باقياً على وضعه اللغوي فنتمسّك بإطلاقه ، وبماهيّته اللغويّة المقرّرة في اللغة وفي الوضع العُرفي وأمّا إذا نُقل من قِبَل الشارع إلى معنى آخر وحقيقة معيّنة جديدة فيجب ـ في مقام معرفة تلك الحقيقة ـ الاعتماد على ألسِنة الشارع وليس لنا الرجوع إلى الوضع اللغوي الأوّلي.
وقد ذكرَ علماء الأصول أنّ العناوين التي ترد في الأدلّة إذا لم يدلّ دليل على كونها نُقلت إلى معنى آخر فهي باقية على معناها اللغوي.
مثلاً : إذا كان هناك استعمال شائع لأيّ لفظةٍ ولأيّ عنوان ورد في الأدلّة الشرعيّة ولم تقم قرينة أو لم يُقيم دليل معيّن على أنّه نُقل من معناه اللغوي إلى معنى جديد فإنّه يبقى على وضعه اللغوي.
ويقع البحث في تحرير معنى الشُعيرة أو الشعائر في الوضع اللغوي ثُمّ بعد ذلك نبحث عن مدى وجود دليل أو موجب لنقل هذه اللفظة من وضعها اللغوي إلى وضع شرعي وحقيقة شرعيّة.
الشعائرُ في كتب اللغة :
بالنسبة إلى لفظة الشعائر أو الشُعيرة كما وردت في المعاجم اللغويّة :
1 ـ في كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي:
الشِعار : يُقال للرجل : أنت الشِّعار دون الدِّثار تصفه بالقرب والمودّة وأشعَرَ فلان قلبي همّاً ألبسهُ بالهمّ حتى جَعله شعاراً ويقال : ليت شِعري أي : عِلمي ويقال : ما يُشعرُك : وما يدريك.
وشعرتهُ : عَقلته وفهمتهُ والمشعَر : موضع المنسك من مشاعر الحجّ.
وكذلك : الشعار من شعائر الحجّ والشُعيرة من شعائر الحجّ .
فالخليل بن أحمد أثبتَ كلتا اللغتين في اللفظة المفردة مفرد الشعائر فجعلها شُعيرة وجعلها أيضاً شعاراً ثُمّ قال:
والشُعيرة : البُدن وأشعرتُ هذه البُدن نسكاً أي : جعلتها شُعيرة تُهدى وإشعارها أن يوجأ سِنامها بسكّين فيسيل الدم على جانبها فتُعرف أنّها بدنة هَدي وسبب تسمية البُدن بالشعيرة أو بالشعار أنّها تُشعر ـ أي تُعلَّم ـ حتّى يُعلم أنّها بُدن للهدي .
ونلاحظ أنّ هناك معنى مشتركاً بين موارد استعمال الشعائر حيث نراها تستعمل بكثرة بمعنى العلامة والاستعلام.
2 ـ قال الجوهري في الصِحاح : والشعائر أعمال الحجّ وكلّ ما جُعل عَلماً لطاعة الله تعالى والمشاعر : مواضع المناسك والمشاعر : الحواس والشعار : ما وليَ الجسد من الثياب وشعار القوم في الحرب : علامتهم ؛ ليعرف بعضهم بعضاً وأشعرَ الرجل همّاً إذا لزقَ بمكان الشِعار من الثياب في الجسد وأشعرتُه فشعرَ أي : أدريتهُ فدرَى .
ـ الراغب أيضا لم يزد على ما ذكره الخليل والجوهري في صِحاحه.
3 ـ قال الفيروز آبادي في القاموس : أشعرَهُ الأمر أي : أعلمهُ وأشعرَها : جَعل لها شعيرة وشِعار الحجّ : مناسكه وعلاماته والشعيرة والشعارة والمشعر موضعها أو شعائره : معالمهُ التي ندبَ الله إليها وأمرَ بالقيام بها .
4 ـ ابن فارس في (مقاييس اللغة) لديه هذا التعبير أيضاً يقال للواحدة : شعارة وهو أحسن (من شعيرة) ممّا يدلّ على أنّ شعيرة صحيحة ولكنّ الأصح والأحسن شعارة والإشعار : الإعلام من طريق الحس ،. ومنه المشاعر : المعالِم واحدها : مشعر وهي المواضع التي قد أُشعرت بعلامات ومنه الشِعر ؛ لأنّه بحيث يقع الشعور (يعني التحسّس) ومنه الشاعر ؛ لأنّه يُشعر بفطنته بما لا يفطن له غيره .
5 ـ القرطبيّ في تفسيره : كلّ شيء لله تعالى فيه أمرٌ أشعرَ به وأعلمَ يقال له : شعاره أو شعائر.
وقال: والشّعار: العلامة وأشعرت أعلمتُ الشعيرة العلامة وشعائر الله أعلام دينه .
نتيجةُ المطاف
تحصّلَ من مجموع كلمات اللغويّين والمفسِّرين أنّ موارد استعمال هذه المادّة وهذه اللفظة في موارد الإعلام الحسّي وهي : جنبة إعلاميّة ،. كما يظهر من أدلّة اللسان الثاني للأدلّة القرآنيّة الواردة بغير لفظة الشعائر وهي تركِّز على جانب الإعلام الديني أو نشر الدين وبثّ نور الله سبحانه وعدم إطفائه هذه التعابير كلّها عبارة عن المراد من الآيات.
وهناك جنبة أخرى في الشعائر : وهي جنبة الإعلاء ـ العلوّ ـ وهذه موجودة في لسان الأدلّة أيضاً بيدَ أنّها غير موجودة في ماهيّة الشعائر ؛ وإنّما هي موجودة في ماهيّة المتعلّق الذي تعلّق بالشعائر (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ...) التعظيم : هو العلوّ والرفعة والسموّ {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة: 2] أي : لا تبتذلوها ولا تستهينوا بها.
فإنّ هذا اللسان الأوّل الذي وردَ فيه لفظة الشعائر في الموضوع ركّزَ على جنبة الإعلام (على ضوء ما استخلصناه من أنّ : معنى الشعيرة والشعائر عند اللغويين هو الإعلام الحسّي وليس هو الإعلام الفكري المحض الذي يكون من وراء الستار) فالإعلام الفكري لا يسمّى شعائر بل الشعائر : هي العلامة الحسّيّة الموضوعة التي تشير وتُنبئ عن معنى ديني له نسبةٌ ما إلى الله عزّ وجل وإلى الدِين.
هذه جنبة الإعلام الموجودة في اللسان الأوّل من الآيات والجنبة الثانية التي تظهر من خلال لسان الدليل الثاني وهي : جنبة الإعلاء {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40] {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] وما شابه ذلك.
ويمكن القول : إنّ كلتا الجنبتين حاصلتان في اللسان الأوّل غاية الأمر أنّ جنبة الإعلام والنشر والبثّ ظاهرة في موضوع الدليل وهو الشعائر وجنبة الإعلاء والتعظيم وعدم الاستهانة مطويّة في متعلّق الدليل وهو التعظيم (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ) (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ) ،.. (لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ).
إذا خُلّينا وهذا المعنى اللغوي فالمعنى عام كما ذَكر القرطبي أيضاً تَبعاً لبعض اللغويّين : كلّ أمرٍ أعلَمَ بالله عزّ وجل أو أعلمَ بمعنىً من المعاني المنتسِبة إلى الله عزّ وجل فهو شعار وشعائر.
فمن حيث الوضع اللغوي والماهيّة اللغويّة ؛ فإنّ الشعائر والشعار والشعارة هو كلّ ما له إعلام حسّي بمعنىً من المعاني الدينيّة وله إضافة ما بالله عزّ وجل وبدينه وبأمره وبإرادته وبأحكامه وبمراضيه.
الفرقُ بين النُسك والشعائر
فإذاً الشِعار ليس هو النُسك من حيث هو نُسك قد سمّيت النسك مشاعر ؛ لأنّ فيها جنبة إعلام نُسك الحجّ تسمّى مشاعر بتطبيق المعنى اللغوي عليها من جهة أنّ الحجّ يمثّل مؤتمراً ومَجمعاً ومحلاًّ لالتقاء وتقارب الأهداف المشتركة والغايات الموحّدة لهم فحينئذٍ كلّ ما يمارسوه من أعمال بالرسم المجموعي يكون فيه جنبة إعلان للدين ولعظمة الدين وفيه دلالة واضحة للوحدة والألفة للأمّة الإسلاميّة.
ومن ثُمّ سُمّيت مناسك الحجّ ـ دون غيرها من العبادات ـ بالمشعر باعتبار أنّ فيها جنبة الإعلام دون غيرها وربّما تسمّى صلاة الجماعة أيضاً بالمشعر وتسمّى مساجد الله بالمشعر والسرّ في ذلك : هو ما ذكرنا من أنّ هذه القاعدة الشرعيّة الفقهيّة لها حكمٌ متميز ومغاير لبقيّة الأحكام.
وليس كما قال بعض علماء العامّة بأنّ الشعائر تعني دين الله ؛ لأنّ الشعائر هي الإعلام لدين الله وإعلاءُ دين الله وبالتالي إحياء معالِم الدين.
فلها متعلّق خاص وحكم خاص وموضوع خاص وسيتبيّن أيضاً أنّ جَعل الشعائر وحكمها ليس ثانويّاً.
المعنى الجامع بين اللغويّين
فحينئذٍ المعنى الجامع العامّ الذي يقف عنده اللغويّون ـ في ماهيّة الشعائر ـ هي : جنبة الإعلام الحسّي وبعبارة أخرى : إنّ أيّ شيء أو أمر تظهر فيه مبارزة دينيّة وفيه جنبة إعلام عن معنى من المعاني الدينيّة أو حكمٍ من الأحكام الدينيّة أو سلوكٍ من القيَم الدينيّة وما شابه ذلك يسمّى شعاراً أو شعائر.
في كيفيّة تحقّق الموضوع ومُعالجة بعض قواعد التشريع
بعد معرفة أنّ الأصل الأوّلي ومقتضى القاعدة الأوّليّة هو أنّ الشارع إذا أوردً عنواناً معيّناً في دليلٍ من الأدلّة فإنّه يجب أن يبقى على معناه اللغوي.
أي أنّ كلّ دليل وردَ من الشارع يبقى على معناه اللغوي ما لم ينقله الشارع إلى الحقيقة الشرعيّة هذا من جهة.
ومن جهةٍ أخرى هناك أمر آخر يضيفه الأصوليّون وهو تحقّق هذا العنوان وحصوله في الخارج.
فنحن تارة نتكلّم في مرحلة التأطير والتنظير وفي أفق الذهن أو في أفق اللوح باعتباره القانون فحينئذٍ يبقى المعنى على حاله.
وتارةً نتكلّم عن مرحلة أخرى هي غير التنظير القانوني بل هي مرحلة التطبيق في الخارج والوجود في الخارج في هذه المرحلة أيضاً فما لم يعبّدنا الشارع ويتصرّف في الوجود الخارجيّ لأيّ عنوان فالأصل الأوّلي هو أن يكون وجوده ومجاله أيضاً عرفيّاً سواء كان له وجودٌ تكويني أو كان له وجود اعتباري لدى العرف إلاّ أن يجعل الشارع له وجوداً خاصّاً بأن ينصب دليلاً على ذلك.
أمثلةٌ على تحديد الوجود الخارجي للموضوع من الشارع المقدّس
مثال 1 : في تحقّق الطلاق لو قال الزوج : طلّقتُ امرأتي أو أطلّقُكِ أو سأُطلّقك فكلّ هذه الصيغ لا يمضيها الشارع ولا يقرّها وهي غير محقّقة ولا موجّدة للطلاق وإن كانت في العرف موجدةً له لكن عند الشارع لا أثر لها إلاّ أن يقول : أنتِ طالق بلفظ اسم الفاعل المراد منه اسم المفعول.
هنا الشارع وإن لم يتصرّف في ماهيّة الطلاق ولم يتصرّف في عنوانه بل أبقاه على معناه اللغوي لكنّه تصرّف في كيفيّة وجوده وحصوله في الخارج.
مثال 2 : الحلف لا يكون حلفاً شرعيّاً بالله والنذر لا يكون نذراً لله إلاّ أن تأتي به بالصيغة الخاصّة فهذا تصرّف في كيفيّة الوجود فإن دلّ الدليل على كيفيّة تصرّف خاصّة من الشارع وفي كيفيّة الوجود فلا يتحقّق ذلك الأمر إلاّ بها.
أمّا إذا لم يقم الدليل من الشارع على ذلك فمقتضى القاعدة الأوّليّة أنّ وجوده يكون وجوداً عرفيّاً ـ تكوينيّاً كان أو اعتباريّاً ـ ما لم يرد دليل من الشارع لتحديد وجوده وحصوله في الخارج.
نرجع إلى محلّ البحث لو لم يكن دليل إلاّ عموم آية (لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ).
وعموم آية : (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) وقلنا : إنّ المعنى يبقى على حاله حيث إنّ الشارع لم يتصرّف في معناه اللغوي الذي هو ما يقال عنه مرحلة تقنين القانون ولم يتصرّف أيضاً في مرحلة التطبيق الخارجي من جهة خارجيّة فما يتّفق عليه العرف بحيث يصبح تبياناً وإضاءةً لمعنى من المعاني الدينيّة يصبح شعيرةً وشعاراً.
ويجدر التنبيه هنا على أنّ وجودات الأشياء على قسمين:
الوجودُ التكويني والوجود الاعتباري للأشياء
القسم الأوّل : هو الوجود التكويني مثل : وجود الماء الحجر الشجر الإنسان الحيوان.
القسم الثاني : وجود غير تكويني بل هو اعتباري ـ أي فرضي ولو من العرف ـ مثل : البيع فالبائع والمشتري يتّفقان على البيع بخصوصيّاته فيتقيّدان بألفاظ الإيجاب والقبول فيها فحينئذٍ : هذا البيع أو الإجارة أو الوصيّة أو المعاملة ليس لها وجود حسّي خارجيّ ؛ وإنّما وجودها بكيفيّات اعتباريّة فرضيّة في عالَم فرضي يُمثّل القانون سواء قانون الوضع البشري أو حتّى قانون الوضع الشرعي عند الفقهاء إذ يحملون هذا على الاعتبار الفرضي فهو عالَم اعتبار لمَا يتّخذه العقلاء من فرضيّات.
العقلاء يفترضون عالَماً فرضيّاً معيّناً لوحة خاصّة بالعقلاء لوحة القانون العقلائي.
فوجودات الأشياء على أنحاء : تارةً نَسق الوجود التكويني وتارة نَسق الوجود الاعتباري وإن كانت اعتبارات الشارع وتقنينات الشارع وفرضيّات الشارع وقوانينه يُطلق عليها أيضاً اعتبار شرعي ولكن من الشارع.
خلاصةُ القول
إنّ كلّ عنوان أُخذ في دليلٍ ـ كالبيع أو الهبة أو الوصيّة أو الشعائر أو الطلاق أو الزوجيّة ـ إذا أُبقيَ على معناه اللغوي وأيضاً أُبقي على ما هو عليه من الوجود عند العرف فبها غاية الأمر أنّ الوجود عند العرف ليس وجوداً تكوينيّاً بل وجودٌ طارئ اعتباري في لوحة تقنيناتهم وفي لوحة اعتبارهم مثلاً : حينما يقول الشارع في الآية الكريمة : {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] ليس معناه : أنّ البيع الذي هو بيع عند الشارع قد أحلّه الله ؛ لأنّ ذلك يكون تحصيل الحاصل لأنّ البيع الذي عند الشارع هو حلال من أساسه بل المقصود من : (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) وكذلك : {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] المراد أنّ البيع والعقود التي تكون متداولة في أُفق اعتباركم أنتم أيها العقلاء قد أوجبتُ ـ أنا الشارع ـ الوفاء بها وقد أحللتُها لكم فإذاً قد أبقاها الشارع على ما هي عليه من وجود ومعنىً لغوي عند العقلاء والعرف.
وقد يتصرّف الشارع في بعض الموارد ـ كما بينّا في الطلاق ـ حيث يقيّدها بوجود خاص.
فحينئذٍ يتبيّن أنّ الأشياء قد يبقيها الشارع على معناها اللغوي ويبقي وجودها في المقام الآخر على ما هي عليه من وجود إمّا تكويني أو اعتباري.
ومن جهةٍ أخرى فإنّ العلامة أو (الدال) إمّا عقليّة أو طبعيّة أو وضعية فهل الشعائر أو الشعيرة هي علامة تكوينيّة أم عقليّة أم طبعيّة أم هي وضعيّة ؟
الشعيرةُ علامة وضعيّة
نرى أنّ الشعيرة والشعار هي علامة وضعيّة وليست عقليّة ولا طبعيّة وهنا مفترق خطير في تحليل الماهيّة ؛ للتصدّي للكثير من الإشكالات أو النظريّات التي تُقال في قاعدة الشعائر.
نقول : إنّ الشعيرة هي علامة وضعيّة بمعنى أنّ لها نوعاً من الاقتران والربط والعلقة الاعتباريّة فالوضع هو اعتباري وفرضي بين الشيئين.
والأمر كذلك في الأمور الدينيّة أيضاً مثلاً كان شعار المسلمين في بدر : (يا منصور أمِت) حيث يستحب في باب الجهاد أن يضع قائد جيش المسلمين علامة وشعاراً معيّناً للجيش.
الشعائر أو الشعارة : هي ربط اعتباري ووضع جعلي فطبيعتها عند العرف هو الاعتبار حتّى شعار الدولة وشعار المؤسّسات وشعار الأندية والوزارات والشركات التجارية والفِرق الرياضيّة لكنّ كلّ ذلك أمر اعتباري فهو علامة حسّيّة دالّة على معنى معيّن لكنّ الوضع والعلقة فيه اعتباريّة.
فلابدّ من الالتفات إلى تحليلٍ أعمق لماهيّة الشعائر والشعيرة فماهيّة الشعار والشعيرة علامة حسّيّة لمعنى من المعاني الدينيّة ولكنّ هذه العلامة ليست تكوينيّة ولا عقليّة ولا طبعيّة وإنّما هي علامة وضعيّة.
فالشعائر هي التي تفيد الإعلام وكلّ ما يُعلِم على معنى من المعاني الدينيّة أو يدلّ على شيء له نسبة إلى الله عزّ وجل فإنّ هذا الإعلام والربط بين المَعلم والمُعلم به وهذا الربط هو في الماهيّة وضعي اعتباري.
فالموضوع يتحقّق بالعُلقة والوضع الاعتباري.
وإذا كان تحقّق ماهيّة الشعائر والشعيرة بالعُلقة الوضعيّة الاعتباريّة وافتراضنا أنّ الشارع لم يتصرّف في كيفيّة الوجود بمعنى أنّ المتشرّعة إذا اختاروا واتّخذوا سلوكاً ما علامة لمعنى ديني معيّن فبالتالي يكون ذلك السلوك من مصاديق الشعائر.
وكما قلنا : إنّ ماهيّة الشعائر تتجسّد في كلّ ما يوجب الإعلام والدلالة فيها وضعيّة والواضع ليس هو الشارع ؛ لأنّه لم يتصرّف بالموضوع فبذلك يكون الوضع قد أُجيز للعرف والعقلاء.
كما ذكرنا في البيع أنّ له ماهيّة معيّنة وكيفيّة خاصّة حسب ما يقرِّره العقلاء وكيفيّة وجوده اعتباريّة وذَكرنا أنّ الشارع إن لم يتصرّف في الماهيّة والمعنى في الدليل الشرعي ولم يتصرّف في كيفيّة الوجود فالماهيّة تبقى على حالها عند العقلاء بخلاف الطلاق الذي تصرّف الشارع في كيفيّة وجوده في الخارج.
الشعائرُ ومناسك الحج
وممّا تقدّم : تبيّن خطأ عدّ مناسك الحجّ ـ بما هي مناسك ـ شعائر.
حيث إنّ الشعائر صفة عارضة لها وليست الشعائر هي عين مناسك الحجّ كما فسّرها بعض اللغويّين.
بيان ذلك : حينما نقول مثلاً : (الإنسانُ أبيض) هل يعني أنّ الماهيّة النوعيّة للإنسان هي البياض كلاّ أو حين نقول : (الإنسان قائم) فهل يعني أنّ الماهيّة النوعيّة للإنسان هي القيام كلاّ إذ القيام والبياض أو السمرة أو السواد ليست ماهيّةً للإنسان وإنّما هذه عوارض قد تعرض على الماهيّة وقد تزول عنها.
إنّ كُنه الإنسان وماهيّته بشيء آخر لا بهذه العوارض وكذلك مناسك الحجّ إذ ليست ماهيّة المنسك هي الشعار بل الشِعار هو ما يكمُن وينطوي فيه جنبة الإعلام والعلانيّة لشيء من الأشياء.
مثال آخر : لفظة (زيد) كنهها ليس أنّها سِمة لهذا الإنسان كُنهها : هو صوت متموّج يتركّب من حروف معيّنة نعم من عوارضها الطارئة عليها أنّها سِمة واسم وعلامة لهذا الإنسان وهذا من عوارضها الاعتباريّة لا الحقيقيّة حيث إنّها علامة على ذلك الجسم.
إذاً جنبة العلاميّة لون عارض على أعمال الحج أو على العبادات أو على الموارد الأخرى لا أنّها عين كنه أعمال الحج وليس كون الشعائر هي نفس العباديّة ولا كون العباديّة هي الشعائر.
أمّا كيف يسمح الشارع في أن يتصرّف العرف بوضع الشعائر أو غير ذلك فهذا ما سنقف عليه لاحقاً إن شاء الله تعالى.
الترخيصُ في جَعل الشعائر بيد العُرف
إنّ الشارع حينما لا يتصرّف في معنى معيّن ولا في وجوده في الخارج فهل يعني هذا تسويغاً من الشارع في أن يتّخذ العرف والعقلاء ما شاءوا من علامة لمعاني الدين وبشكلٍ مطلق ؟ أم هناك حدود وقيود وما الدليل على ذلك ؟
هل اتّخاذ المسلمين لهذه المعالِم الحسّيّة مَعلماً وشعاراً سواء كانت مَعالم جغرافيّة : كموقع بدر وغدير خمّ أو مَعلماً زمنيّاً : كمولد النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وهجرته وتواريخ الوقائع المهمّة أو مَعلماً آخر غير زماني ولا مكاني كأن يكون ممارسةً فعليّة هل هذا فيه ترخيص من الشارع أم لا؟
للإجابة على هذا السؤال المهمّ لابدّ من تحرير النقاط التالية:
النقطة الأولى : وهذه هي جهة الموضوع في قاعدة الشعائر الدينيّة وهي : أنّ العناوين التي ترد في لسان الشارع إذا لم يرد دليل آخر يدلّ على نقلها من الوضع اللغوي إلى الوضع الجديد والمعنى الجديد فهي تبقى على حالها وعلى معانيها الأوّليّة اللغويّة.
النقطة الثانية : أنّ تحقّق تلك الموضوعات وكيفيّة وجودها في الخارج إن كان الشارع صرّح وتصرّف بها فنأخذ بذلك وإلاّ فإنّها ينبغي أن تبقى على كيفيّة وجودها العرفي أو التكويني.
النقطة الثالثة : أنّ وجودات الأشياء على نسقَين:
( أ ) بعض الوجودات وجودات تكوينيّة.
(ب) وبعض الوجودات وجودات اعتباريّة.
وقد أشرنا سابقاً لذلك ولكن لزيادة التوضيح نقول : إنّ عناوين أغلب المعاملات وجودها اعتباري : كالبيع والإجارة والهبة والوصيّة والطلاق والنكاح وما شابه ذلك كلّ هذه العناوين كانت وجودات لدى العرف والعقلاء (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ...) (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ...) وغيرها من العناوين.
فآية : (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ...) لسانٌ شرعي وقضيّة شرعيّة تتضمّن حكماً شرعيّاً وهو الحلّيّة بمعنى حلّيّة البيع وصحّته وجوازه ولم يتصرّف الشارع بماهيّة البيع ولا بكيفيّة وجوده إلاّ ما استُثني فكيفيّة وجوده عند العرف والعقلاء تكون معتبرة فما يصدق عليه وما يسمّى وما يطلق عليه (بيع) في عرف العقلاء جُعل موضوعاً لقضيّة شرعيّة وهي حلّيّة ذلك البيع وإلاّ فإنّ هذا الدليل (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ...) ليس المقصود منه البيع الشرعي إذ البيع الشرعيّ أحلّه الله ولو كان البيع المراد في هذا اللسان هو البيع الشرعي لمَا كان هناك معنىً لحلّيّته ؛ لأنّه سوف يكون تحصيلاً للحاصل البيع الشرعي إذا كان شرعيّاً فهو حلال بذاته فكيف يُرتّب عليه الشارع حكماً زائداً وهو الحلّيّة.
فلسان الأدلّة الشرعيّة ـ والتي وردت فيها عناوين معيّنة ـ إذا لم يتصرّف الشارع بها ولم يتعبّد بدلالة زائدة تبقى على ما هي عليه من المعاني الأوّليّة وتبقى على ما هي عليه عند عُرف العقلاء.
حينئذٍ يأتي البيان المزبور في لفظة (الشعائر) الواردة في عموم الآيات : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة: 2] أو : {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج: 32] وقد مرّ بنا أنّ ماهيّة الشعيرة أو الشعائر التي هي بمعنى العلامة إذا أُضيفت إلى الله عزّ وجل أو أُضيفت إلى الدين الإسلامي أو أُضيفت إلى باب من
أبواب الشريعة فإنّها تعني علامة ذلك الباب أو علامة أمر الله أو علامة أحكام الله وما شابه ذلك.
والعلامة ـ كما ذكرنا ـ ليست عين المنسك وليست عين العبادة وليست عين الأحكام الأخرى في الأبواب المختلفة ؛ وإنّما العلامة أو الإعلام شيء طارئ زائد على هذه الأمور كاللون الذي يكون عارضاً وطارئاً على الأشياء فيكون طارئاً على العبادة أو المنسك أو الحُكم المعيّن.
فجنبة الإعلام والنشر في ذلك الحُكم أو في تلك العبادة أو ذلك المنسك تتمثّل بالشعيرة والشعائر وبهذا النحو أيضاً تُستعمل في شعائر الدولة أو شعائر المؤسّسة والوزارة ـ مثلاً ـ فهي ليست جزءاً من أجزاء الوزارة أو المؤسّسة مثلاً وإنّما هي علامةٌ عليها.
فالنتيجة : أنّ الشعيرة والشعائر والشِعار تبقى على حالها دون تغيير في كلا الصعيدين : صعيد المعنى اللغوي وصعيد كيفيّة الوجود في الخارج.
فإطلاق الشعائر على مناسك الحجّ ليس من جهة وجودها التكويني أو الطبعي بل من جهة الجعل والاتّخاذ من الله عزّ وجل : {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج: 36]يعني : باتّخاذ وضعي واعتباري أصبحت علامة ونبراساً للدين.
هذه الشعائر في مناسك الحج جُعلت ـ بالوضع والاعتبار ـ علامةً للدين ولعلوّ الدين ولرقيّه وانتشاره وعزّته ونشر أحكامه.
بعد هذا البسط يتّضح من ماهيّة الشعيرة ومن وجود الشعيرة أنّ وجودها ليس تكوينيّاً والمقصود ليس نفي تكوينيّة وجود ذات الشعيرة بل إنّ تَعَنون الشيء بأنّه شعيرة وجعله علامة على شيء آخر تَعنونه هذا وجعله كذلك ليس تكوينيّاً بل اعتباريّاً وإلاّ فالبُدن هي من الإبل ووجودها تكويني.
ولكن كونها شعيرة وعلامة على حُكم من أحكام الدين أو على عزّة الإسلام شيء اعتباري نظير بقيّة الدلالات التي تدلّ على مدلولات أخرى بالاعتبار والجعل.
فالشعائر وإن كانت وجودات في أنفسها تكوينيّة ولكن عُلقتها ودلالتها على المعاني اتّخاذيّة واعتباريّة بواسطة عُلقة وضعيّة ربطيّة اعتباريّة هذا من جهة وجودها.
ومن جهةٍ أخرى فقد دلّلنا على أنّ الشعائر والشعيرة تكون بحسب ما تُضاف إليه كما قد يتّخذ المسلمون الشعائر في الحرب مثلاً كما وردَ دليل خاص في باب الجهاد على استحباب اتّخاذ المسلمين شعاراً لهم مثل ما اتّخذه المسلمون في غزوة بدر وهو شعار : (يا منصور أمِت).
فالمقصود إذا لم يرد لدينا دليل خاصّ على التصرّف في معنى الشعائر أو الشعيرة ـ التي هي بمعنى العلامة كما ذكرنا ـ فإنّه يبقى على معناه اللغوي الأوّلي.
الوجودُ الاعتباري للشعيرة
وكذلك في الوجود الخارجي إذ المفروض أنّ المتشرّعة إذا اتّخذوا شيئاً ما كشعيرة يعني علامة على معنى ديني سامي معنىً من المعاني الدينيّة السامية أو حكماً من الأحكام العالية وجعلوا له علامة شعيرة وشِعار وشعائر.
فالمفروض جَعل ذلك بما هي شعيرة لا بما هي هي أي : بوجودها النفسي لكن بما هي شعيرة (كاللفظ بما هو دال على المعنى لا يكون دالاً على المعنى إلاّ بالوضع ..) فالشعيرة بما هي شعيرة أي بما هي علامة دالّة على معنى سامي من المعاني الدينيّة وتشير بما هي علامة على حُكم من الأحكام الدينيّة الركنيّة مثلاً أو الأصليّة وهي دلالة اعتباريّة اتّخاذيّة وضعيّة.
وهذا يعني أنّها مجعولة في ذهن الجاعل وبالتبادل وبالاتفاق تصبح شيئاً فشيئاً شعيرة وشِعار مثل ما يجري في العرف بأن يضعوا للمنطقة الفلانيّة اسماً معيّناً مثلاً وبكثرة الاستعمال شيئاً فشيئاً ينتشر بينهم ذلك الاسم فيتواضعون عليه ويتعارف بينهم أنّ هذه المنطقة تُعرف باسم كذا ويحصل الاستئناس في استعمال اللفظ في ذلك المعنى فينتشر ويتداول فحينئذٍ يكون اللفظ المخصوص له دلالة على المعنى المعيّن دلالةً وضعيّةً.
خلاصةُ القول
إلى هنا عرفنا أنّ في آية : (لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ) وآية : (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ثلاثة مَحاور: محور الحُكم ومحور المتعلّق ومحور الموضوع.
فنقول : لو كنّا نحن ومقتضى القاعدة لو كنّا نحن وهاتين الآيتين الشريفتين فقط وفقط فحينئذٍ نقول : إنّ المعنى لشعائر الله Ù€ كالزوال وكدِلوك الشمس Ù€ بقيَ على ما هو عليه في المعنى ووجوده أيضاً على ما هو عليه من وجود وقد بيّنّا في كيفيّة وجوده أنّها ليست تكوينيّة بل هي وضعيّة واعتباريّة واتخاذيّة كما في آية (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ...) نبقيه على ما هو عليه من معنى ونُبقيه على ما هو عليه من وجود ووجوØ