شبهات و ردود

قد يورد بعض الإشكالات ثلة من الناس الذين عاشوا بعيداً عن أجواء العشق الحسيني منها :
أوّلاً : ليس جميع المشاركين في هذه الشعائر يدركون فلسفة الشعائر وإنّ الكثير منهم لا يستطيع أن يدرك هذه الفلسفة مع أنّه يشارك في هذه الشعائر وبنية غير النية التي تحدّثنا عنها .
والجواب على ذلك : إن لم يكن جميع المشاركين في الشعائر الحسينيّة يدركون العمق الفلسفي لها فهذا لا يعني أنها خالية من هذا العمق ، مَثَلها مثل أمر الوالد لولده بأن يفعل أمراً ما يرى فيه الوالد مصلحة لولده في فعله في حين إنّ الولد يرى عكس ذلك فهل رؤية الولد تعني أنّ أمر الوالد خالي من المصلحة ؟
كما إننا نستطيع أن نجد تأثيرات هذه الفلسفة وكيف إنها جلية وواضحة لدى الكثيرين ممّن ينقمون علينا بسببها . وأقول لك وبوضوح : إنّ سبب نقمتهم على هذه الشعائر إنما هو الدليل الأوضح على استيعابهم لما فيها من إشارات واضحة وبيّنة استشعروها ، وعرفوا مغزاها ؛ ولذا كان منهم عدم تقبّلها ؛ لما تمسّ من تحريفاتهم وتضليلهم على حقائق آل البيت (عليهم السّلام) .
وإلاّ فما معنى إنزعاجهم من أن أفعل بنفسي ما اُريد وفق الحدود الشرعيّة التي بيّنها لنا مراجعنا أيّدهم الله ، في حين يفترض وفق المنطق العقلي أنهم يسعدوا من تألمي وضربي لنفسي وأنا اُمثّل حقيقة يرفضونها ؟! ولكنها الحقيقة المرة التي تطفح على وجوه معانديها رغم أنوفهم .
ثانياً : إنّ هذه الشعائر لم تقم في عصر الأئمة (عليهم السّلام) فلا توجد عندنا رواية واحدة على أنّ أحد الأئمة قام بضرب رأسه بالسيف أو ضرب ظهره بالسلاسل أو لدم صدره وبالتالي فهي بدعة وليست من الدين بشيء .
والجواب ذُكر ضمناً في صفحات هذا الكتيب ، وهو : إنّ تقييم أنّ هذه الشعائر بدعة أو لا نرجع به إلى أهل الاختصاص وليس إلى انفعالاتنا الشخصيّة وذوقنا الخاص . وأهل الاختصاص مراجعنا (حفظ الله الباقين منهم ورحم الماضين) وليس من قائل منهم بأنها بدعة ، هذا أولاً .
وثانياً : إنّه على القياس المذكور ـ أي إنّ الشيء الذي لم يقم به الإمام (عليه السّلام) أو [لم يرد] فيه حكم فهو بدعة ـ يكون حكم المجتهد في قضية مثل الاستنساخ البشري أو أطفال الأنابيب مثلاً بدعة وحكم المجتهد في قضية مثل التلفزيون واستخدامه بدعة وحكم المجتهد في الصلاة في طائرة بدعة و ... إلخ فكلها لم ينصّ فيها برواية واحدة على أنّ أحد الأئمة (عليهم السّلام) قام بها أو أعطى حكماً على إحداها .
فانتبه أخي القائل بالبدعة ؛ لئلاّ تبتدع أمراً تريد به نفي البدعة .
ثالثاً : إنّ سير المواكب في الشوارع في عصرنا الحالي يجعل الأجانب ينظرون إلينا بعين السخرية والاستهزاء ويرموننا بالتخلف والرجعية .
والجواب : إنّ الدين ليس قائماً على حسن نظرة الأجانب إلينا أو عدم استهزائهم بنا ؛ فهم يستهزؤون بنا كوننا نسجد على التراب وهم يستغربون منّا عدم مصافحتنا للنساء وينظرون إلينا بعين الاستصغار لذلك فهل يدعو الأمر إلى أن لا نسجد على التراب وأن نصافح النساء ؟ هذا أوّلاً .
أمّا ثانياً : إنّ لهم من عاداتهم ومراسيمهم الدينية والاجتماعية ما يوجب استهزاءنا بهم فهل أعاروا ذلك أهمية ؟ كلا ، بل يمارسونها ويفتخرون بها ؛ سواء رضينا أم لم نرضَ .
أمّا ثالثاً : فأيهما أهم أن نحافظ على أبنائنا ونؤدّبهم بالأدب الحسيني أم نرضي الأجانب وندع جيلنا الجديد ضعيفاً في بحر التيارات والأفكار المنحرفة ؟
رابعاً : إنّ المشاركين في هذه الشعائر يبذلون جهودهم وأموالهم في حين لو أنهم بذلوها على تزويج الشباب وإصلاح المجتمع وتدعيم الاُمّة الإسلاميّة فهو أصلح وأولى .
والجواب : إنّ بذل الجهد والأموال في هذه الشعائر هو إصلاح للمجتمع وتدعيم للاُمّة وليس العكس ـ طبعاً لا يمكن إدراك ذلك لمَن لا يعي أبعاد هذه الشعائر وأهدافها ـ على أن لا منافاة بين الأمرين وليس ثمة تلازم .
فكما أن تزويج الشباب مستحب ، فإنّ إقامة ودعم الشعائر مستحب كذلك مع فرق أنّ تزويج الشباب يعود بالفائدة على بعض الأفراد في حين إنّ إقامة الشعائر تعود بالفائدة على المجتمع ؛ فالمال والجهد المبذول لإقامة إحدى الشعائر في إحدى الحسينيات الكبيرة قد يكفي لتزويج أربعة أشخاص أو حتّى ثمانية ، في حين إن المشاركين في الحسينيّة قد يصل عددهم إلى مئات فأيهم أولى ؟
وهذا كما ذكرت أعلاه لا يعني عدم استحباب تزويج الشباب والسعي بذلك ولكنه لا يتنافى . كما لا منافاة بين غسل الجمعة الذي هو من المستحبات المؤكدة وبين غسل اليدين قبل الطعام الذي هو مستحب أيضاً ، فلا يمكن أن نقول : إنّ الماء المبذول في غسل الجمعة نستخدمه في غسل اليدين ؛ لان غسل اليدين يمنع الأمراض فهو أولى(1) .
خامساً : إنّ الكثير من المشاركين في هذه الشعائر ليسوا من المتمسكين دينياً بل تراهم من البعيدين عن الدين ولا يتخذون هذه الشعائر إلاّ طريقاً للرياء .
والجواب على ذلك : إنّ اتخاذ بعضهم ـ وليس الكثير ـ هذه الشعائر طريقاً للرياء لا يعني خلوّها من الفائدة والحكمة ؛ فكما إنّ البعض يتخذ الصلاة والجلوس في المساجد والتسبيح طريقاً للرياء فلا يعني هذا خلوها من الحكمة .
وذكرت البعض ـ وليس الكثير ـ من الواقع العملي كون الرياء في الصلاة والتسبيح وغيرها من العبادات أسهل بكثير للمرائي من ضرب الظهر بالسلاسل وشق الرأس بالسيف ولدم الصدر ، هذا أوّلاً .
أمّا ثانياً : فإنّ الشبهة المذكورة تُحسب للشعائر لا عليها ؛ فهي تدل على عمق التأثير الإيجابي لهذه الشعائر في المجتمع بحيث يسعى المراؤون إليها ، فلو كان تأثيرها فرضاً سلبياً وضعيفاً لما سعى اليها المراؤون .
كما إنّ المهم توضيحه : إنّ مقولة هؤلاء إنما هي لعدم إدراكهم العشق الحسيني الذي يذوب فيه العاشق في معشوقه وينسى كل ما دون هذا العشق الذي هو لله وفي الله تعالى .
وقبل أن أنهي هذا الموضوع لا بدّ لي من الإشارة إلى أنه في أحد الأيام دار حوار بيني وبين أحد المبلّغين ، فقال : إنه لو يتم إلغاء موكب التطبير يكون أفضل .
فقلت له : لماذا ؟
أجاب : إنّ من أصعب الاُمور التي اُواجهها في التبليغ السؤال عن موكب التطبير وأغلبهم لا يستطيعون إدراك حكمته ، خصوصاً هم جديدون على المذهب .
فأجبته : فماذا تقول لهم ؟
فقال : أقول لهم : هذا من فعل بعض الأفراد وليس أمراً عاماً .
فأجبته : وهذا خير ما تفعل في إطار التبليغ ، فكما إنه في هذا الإطار يقال لمن يدخل جديداً على الدين عندما يُسأل : هل يجب أن اُصلّي ؟ نعم إذا كنت تستطيع وتريد ذلك ؛ فإن فيها فائدة كبيرة لك . ويتدرجون معه شيئاً فشيئاً حتّى يصلوا معه خلال فترة زمنية إلى الصلوات المستحبة وغيرها من المستحبات ، كذلك الأمر في الشعائر الحسينيّة سوف يدركها تدريجياً ويفهم الغاية والحكمة منها ، ثمّ تراه مستقبلاً من أول المشاركين فيها .
ولا بدّ لي أن أذكر هذه القصة التي وردت في كتاب بحار الأنوار عن لسان العلامة المجلسي (رضوان الله تعالى عليه) : ورأيت في بعض مؤلّفات أصحابنا أنه حكي عن السيد علي الحسيني قال : كنت مجاوراً في مشهد مولاي علي بن موسى الرضا (عليه السّلام) مع جماعة من المؤمنين فلما كان اليوم العاشر من شهر عاشوراء ابتدأ رجل من أصحابنا يقرأ مقتل الحسين (عليه السّلام) فوردت رواية عن الباقر (عليه السّلام) أنه قال : مَن ذرفت عيناه على مصابِ الحسين ولو مثل جناح البعوضة غفر الله له ذنوبَه ولو كانت مثلَ زبد البحر .
وكان في المجلس معنا جاهل مركّب يدّعي العلم ولا يعرفه فقال : ليس هذا بصحيح والعقل لا يعتقده .
وكثر البحث بيننا وافترقنا على ذلك المجلس وهو مصرّ على العناد في تكذيب الحديث فنام ذلك الرجل تلك الليلة فرأى في منامه كأنّ القيامة قد قامت وحُشر الناس في صعيد صفصف (لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلاَ أَمْتاً) وقد نُصبت الموازين وامتد الصراط ووُضع الحساب ونُشرت الكتب واُسعرت النيران وزخرفت الجنان واشتد الحر عليه وإذا هو قد عطش عطشاً شديداً وبقي يطلب الماء فلا يجده فالتفت يميناً وشمالاً وإذا هو بحوض عظيم الطول والعرض .
قال : قلتُ في نفسي : هذا هو الكوثر . فإذا فيه ماء أبرد من الثلج وأحلى من العذب وإذا عند الحوض رجلان وامرأة ، أنوارهم تشرق على الخلائق ومع ذلك لبسهم السواد وهم باكون محزونون فقلت : مَن هؤلاء ؟
فقيل لي : هذا محمّد المصطفى وهذا الإمام علي المرتضى وهذه الطاهرة فاطمة الزهراء .
فقلتُ : ما لي أراهم لابسين السواد وباكين ومحزونين ؟
فقيل لي : أليس هذا يوم عاشوراء ، يوم مقتل الحسين ؟ فهم محزونون لأجل ذلك.
قال : فدنوت إلى سيدة النساء فاطمة وقلت لها : يا بنت رسول الله إني عطشان .
فنظرت إلي شزرا وقالت لي : أنت الذي تنكر فضل البكاء على مصاب ولدي الحسين ومهجة قلبي وقرة عيني الشهيد المقتول ظلماً وعدواناً لعن الله قاتليه وظالميه ومانعيه من شرب الماء !.
قال الرجل : فانتبهت من نومي فزعاً مرعوباً واستغفرت الله كثيراً وندمت على ما كان مني وأتيت إلى أصحابي الذين كنت معهم وخبّرت برؤياي وتبت إلى الله (عزّ وجلّ) .
اللهمّ صلِّ على محمّد وآله وأرني الحقَّ حقاً حتّى أتبعه والباطل باطلاً حتّى أجتنبه ولا تجعله عليَّ متشابهاً فأتّبع هواي بغير هدىً منك واجعل هواي تبعاً لرضاك وطاعتك وخذ لنفسك رضاها من نفسي واهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي مَن تشاء إلى صراط مستقيم والحمد لله ربِّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطيبين الطاهرين .