شبهات و ردود

لم يعزب عن الأئمة (عليهم السّلام) العلم بالشهادة على يد من تكون Ùˆ في أي وقت تقع Ùˆ في أي شي‏Ø¡ إقدارا من اللّه تعالى لهم بما أودعه فيهم من مواد العلم التي بها استكشفوا الحوادث مضافا إلى ما يقرأونه في الصحيفة النازلة من السماء على جدهم المنقذ الأكبر صلى اللّه عليه Ùˆ آله Ùˆ سلم.
Ùˆ ليس في إقدامهم على الشهادة اعانة على ازهاق نفوسهم القدسية Ùˆ إلقاؤها في التهلكة الممنوع منها بنص الذكر المجيد، فإن الابقاء على النفس Ùˆ الحذر عن إيرادها مورد الهلكة إنما يجب إذا كان مقدورا لصاحبها أو لم يقابل بمصلحة أهم من حفظها، Ùˆ أما إذا وجدت هنالك مصلحة تكافى‏Ø¡ تعريض النفس للهلاك كما في الجهاد Ùˆ الدفاع عن النفس مع العلم بتسرب القتل إلى شرذمة من المجاهدين Ùˆ قد أمر اللّه الأنبياء Ùˆ المرسلين Ùˆ المؤمنين فمشوا إليه قدما موطنين أنفسهم على القتل Ùˆ كم فيهم سعداء Ùˆ كم من نبي قتل في سبيل دعوته Ùˆ لم يبارح قوله دعوته حتى أزهقت نفسه الطاهرة! Ùˆ قد تعبد اللّه طائفة من بني إسرائيل بقتل أنفسهم فقال جل شأنه: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } [البقرة : 54] «1».
على أن الاقتصار على ما يقتضيه السياق يخرج الآية عما نحن فيه من ورودها للتحذير عما فيه الهلكة فإنها أعقبت آية الاعتداء في الأشهر الحرم على المسلمين قال اللّه تعالى : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة : 194، 195].
فيكون النهي عن الالقاء في التهلكة خاص بما إذا اعتدى المشركون على المسلمين في الأشهر الحرم و لم تكن للمسلمين قوة على مقتلتهم و الالتزام بعموم النهي لكل ما فيه هلكة لا يجعل حرمة ايراد النفس مورد الهلكة من المستقلات العقلية التي لا تقبل التخصيص بل هي من الأحكام المختصة بما إذا لم توجد مصلحة أقوى من مفسدة الاقدام على التلف و مع وجود المصلحة اللازمة لا يتأتى الحكم بالحرمة أصلا كما في الدفاع عن بيضة الإسلام.
Ùˆ قد أثنى سبحانه Ùˆ تعالى على المؤمنين في اقدامهم على القتل Ùˆ المجاهدة في سبيل تأييد الدعوة الالهية فقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة : 111] ‏ Ùˆ قال تعالى : { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [آل عمران : 169] Ùˆ قال تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة : 207] .
Ùˆ بمثل هذا صارح الرسول صلى اللّه عليه Ùˆ آله Ùˆ سلم في تعاليمه الثمينة أمته فقال صلى اللّه عليه Ùˆ آله Ùˆ سلم أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب، Ùˆ رجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله‏ «2».
Ùˆ لم يتباعد عن هذه التعاليم محمد بن الحسن الشيباني فينفي البأس عن رجل يحمل على الألف مع النجاة أو النكاية ثم قال: Ùˆ لا بأس بمن يفقد النجاة أو النكاية إذا كان اقدامه على الألف مما يرهب العدو Ùˆ يقلق الجيش معللا بأن هذا الاقدام أفضل من النكاية لأنّ فيه منفعة للمسلمين‏ «3».
و يقول ابن العربي المالكي جوّز بعض العلماء أن يحمل الرجل على الجيش العظيم طالبا للشهادة و لا يكون هذا من الالقاء بالتهلكة لأن اللّه تعالى يقول: {مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة : 207] .
خصوصا إذا أوجب الاقدام تأكد عزم المسلمين حين يرون واحدا منهم قابل الألوف‏ «4».
لقد اختص اللّه سبحانه امناء شرعه Ùˆ الخلفاء على الأمة من أبناء نبيه الكريم بأحكام ناشئة عن مصالح خاصة بهم لا تدرك أكثرها أحلام البشر Ùˆ تنحسر عن كنهها العقول Ùˆ في جملتها إلزامهم بالتضحية في سبيل مرضاته عز Ùˆ جل Ùˆ بذل كل ما يحوونه من مال Ùˆ جاه Ùˆ حرمات فتراهم في أعماق السجون طورا Ùˆ في خلل المنفى تارة Ùˆ في ربقة التسفير آونة Ùˆ في مقاساة الخوف Ùˆ الشدائد ردحا Ùˆ الاصاخة إلى قوارص الكلم أويقات حتى شارفوا مناياهم Ùˆ المسوغ لهم في كل ذلك ما علموه من جدهم الأعظم صلى اللّه عليه Ùˆ آله Ùˆ سلم المخبر عن وحي السماء من المزايا Ùˆ المصالح التي تحفظ بها الجامعة الإسلامية بحيث لو لا التوطين على هذا الإقدام لذهب الدين أدراج المنكرات Ùˆ الأضاليل Ùˆ لا سبيل إلى معارضتهم فيما أطلعهم اللّه عليه من السر المكنون Ùˆ عرفهم تلك الأهمية الملحوظة لديه عز شأنه على اختلاف فيهم فمنهم‏ من أمره بالصبر دون الحرب Ùˆ الجهاد Ùˆ منهم من أمره بالقتل Ùˆ منهم من أمره بتناول السموم Ùˆ كان السر في هذا الاختلاف في التكليف ما يراه المولى سبحانه من المصالح حسب الوقت Ùˆ الزمان.
فلم يكن اقدامهم على القتل و تناول السموم جهلا منهم بما صنعه سلطان الجور و قدمه إليهم بل هم على يقين من ذلك فلم يفتهم العلم بالقاتل و ما يقتلون به و اليوم و الساعة طاعة منهم لامر بارئهم تعالى و انقيادا للحكم الالهي الخاص بهم و ليسوا في هذا الحال إلا كحالهم في امتثال جميع أوامر المولى سبحانه الموجهة إليهم من واجبات و مستحبات و العقل حاكم بلزوم انقياد العبيد لأمر المولى و الانزجار عن نهيه من دون الزام بمعرفة المصلحة أو المفسدة الباعثة على الحكم و أما إذا كان المولى حكيما في أفعاله : { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء : 23] , فبالأحرى يكون الخضوع له من دون فحص عن أسباب أحكامه.
و إلى هذا الذي ارتأيناه نظر المحققون من العلماء الاعلام و إن خبط الباحثون في قضية إقدام أهل البيت ( عليهم السّلام ) على ما فيه من ازهاق نفوسهم المقدسة فأخذوا ذات اليمين و الشمال فلم يأتوا بما فيه نجعة المرتاد و لا نهلة الصادي لكونها تخيلات لا تتفق مع القواعد و الطريقة المثلى.
لقد دلت الأحاديث الواردة عن أهل بيت العصمة ( عليهم السّلام ) على أنهم إذا عرفوا من أعدائهم العزم على الفتك بهم أو اشتد عليهم ألم القيود Ùˆ وضح لديهم تأخر القضاء عملوا كل وسيلة من دعاء غير مردود أو شكوى إلى جدهم النبي صلى اللّه عليه Ùˆ آله Ùˆ سلم ليدفع عنهم هذه الاضرار Ùˆ الحوادث فيقول أبو جعفر الباقر عليه السّلام: نحن أهل بيت إذا أكربنا أمر Ùˆ تخوفنا من شر السلطان قلنا يا كائنا قبل كل شي‏Ø¡ Ùˆ يا ملكوت كل شي‏Ø¡ صل على محمد Ùˆ أهل بيته Ùˆ افعل بي كذا Ùˆ كذا «5».
Ùˆ لما احتدم المنصور على أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام Ùˆ عزم على الفتك به دعا ربه تعالى أن يفرج عنه فانجلت بسببه غمائم الفتك به حتى إذا وقع نظره على الصادق عليه السّلام قام إليه فرحا مستبشرا Ùˆ عانقه Ùˆ كان يحدث بعد ذلك عن سبب نقض عزمه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه Ùˆ آله Ùˆ سلم تمثل له باسطا كفيه حاسرا عن ذراعيه Ùˆ قد عبس‏ Ùˆ قطب حتى حال بينه Ùˆ بين الإمام مشيرا إليه أن لو أساء إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام أهلكه فلم ير المنصور بدا من العفو Ùˆ الاكبار لجلال الإمامة Ùˆ سيره إلى مدينة جده مبجلا «6».
Ùˆ لما طال الحبس بموسى بن جعفر عليه السّلام Ùˆ ضاق صدره مما كان يلاقيه توسل إلى اللّه تعالى في الخلاص منه Ùˆ قال في دعائه: يا مخلّص الشجر من بين رمل Ùˆ ماء Ùˆ يا مخلص اللبن من بين فرث Ùˆ دم Ùˆ يا مخلص الولد من بين مشيمة Ùˆ رحم Ùˆ يا مخلص النار من بين الحديد Ùˆ الحجر Ùˆ يا مخلص الروح من بين الأحشاء Ùˆ الامعاء خلصني من يد هارون‏ «7» فنجا ببركة هذا الدعاء من ظلمات الحبس Ùˆ ألم القيود.
Ùˆ لما قدّم إليه الرشيد الرطب المسموم انتقى غير المسموم فأكله Ùˆ ألقى المسموم إلى كلبة الرشيد فماتت‏ «8» Ùˆ لم يقصد بقتلها إلا اعلام الطاغية بأن ما يدور في خلده من اغتياله Ùˆ الفتك به في هذا الحين لم يقرب وقته Ùˆ لذا لما دنا الأجل Ùˆ دعاه اللّه تعالى إليه أكل الرطب المسموم الذي قدمه إليه الرشيد مع العلم به Ùˆ رفع يديه بالدعاء قائلا: يا رب إنك تعلم أني لو أكلت قبل اليوم لكنت قد أعنت على نفسي فأكل منه Ùˆ جرى القضاء «9».
Ùˆ على هذا الأساس يأمر الإمام أبو الحسن علي الهادي عليه السّلام أبا هاشم الجعفري أن يبعث رجلا إلى «Ø§Ù„حائر» الاطهر يدعو له بالشفاء مما نزل به من المرض Ùˆ علله بأن اللّه تعالى أحب أن يدعى في هذا المكان‏ «10».
فإنّ غرضه التعريف بأنه لم يجب في شريعة التكوين إلا جري الأمور على مجاريها العادية Ùˆ أسبابها الطبيعية أو أنه أراد التنبيه على فوائد الابتهال إلى اللّه حينما تتوارد الكوارث على العبد Ùˆ تحيط به المحن كما يرشد إليه احتفاظ الربيع‏ مولى المنصور الدوانيقي بالكنز المذخور الذي دعا به الإمام الصادق عليه السّلام يوم دخل على المنصور Ùˆ قد سخط عليه Ùˆ أراد التنكيل به فشاهد الربيع احتفاء المنصور بالإمام Ùˆ تكريمه‏ «11».
Ùˆ على هذا كان الإمام المجتبى الحسن بن أمير المؤمنين عليه السّلام يستشفي بتربة جده تارة Ùˆ يعمل بقول الطبيب أخرى Ùˆ يأخذ بقول أهل التجربة ثالثة «12» مع علمه بأن ذلك المرض لا يقضي عليه Ùˆ للأجل حد معلوم Ùˆ لكنه أراد ارشاد الناس إلى أن مكافحة العلل تكون بالأسباب العادية فلا غناء عنها حتى يساير هذه الأسباب العادية لكنه لما حان الأجل المحتوم لم يعمل كل شي‏Ø¡ تسليما للقضاء Ùˆ ذلك عندما قدمت إليه جعدة بنت الأشعث اللبن المسموم Ùˆ كان الوقت حارا Ùˆ الحسن صائما «13» فرفع رأسه إلى السماء قائلا: إنا للّه Ùˆ إنا إليه راجعون الحمد للّه على لقاء محمد سيد المرسلين Ùˆ أبي سيد الوصيين Ùˆ أمي سيدة نساء العالمين Ùˆ عمي جعفر الطيار في الجنة Ùˆ حمزة سيد الشهداء «14» ثم شرب اللبن Ùˆ قال لها: لقد غرك Ùˆ سخر منك فاللّه يخزيك Ùˆ يخزيه‏ «15» Ùˆ هي تضطرب كالسعفة.
Ùˆ قد أعلم الرضا عليه السّلام أصحابه بأن منيته تكون على يد المأمون Ùˆ لا بد من الصبر حتى يبلغ الكتاب أجله‏ «16» Ùˆ قال أبو جعفر الجواد لإسماعيل بن مهران لما رآه قلقا من إشخاص المأمون له: إنّه لم يكن صاحبي Ùˆ سأعود من هذه السفرة Ùˆ لما أشخصه المرة الثانية قال عليه السّلام لإسماعيل بن مهران: في هذه الدفعة يجري القضاء المحتوم Ùˆ أمره بالرجوع إلى ابنه الهادي فإنه إمام الأمة بعده‏ «17».
و لما دفعت إليه أم الفضل المنديل المسموم لم يمتنع من استعماله تسليما للقضاء و طاعة لأمر المولى سبحانه، نعم قال لها ابتلاك اللّه بعقر لا ينجبر و بلاء لا ينستر فأصيبت بعلة في أغمض الجوارح من بدنها.
Ùˆ إخبار أمير المؤمنين عليه السّلام بأن ابن ملجم قاتله لم يختلف فيه اثنان Ùˆ لما أتى ابن ملجم يبايع أمير المؤمنين Ùˆ ولى قال عليه السّلام من أراد أن ينظر إلى قاتلي فلينظر إلى هذا فقيل له ألا تقتله قال عليه السّلام Ùˆ اعجبا تريدون أن اقتل قاتلي‏ «18» يشير بذلك إلى أن قتله لما كان أمرا مبرما Ùˆ قضاء محتوما Ùˆ أنّ قاتله ابن ملجم قضاء لا خلف فيه فكيف يقدر أن ينقض الإرادة الإلية Ùˆ يحل ما أبرم من التقدير Ùˆ إلى هذا يشير الصادق عليه السّلام بقوله لعقبة الأسدي: لو أن الأئمة ( عليهم السّلام ) ألحوا على اللّه في هلاك الطواغيت لأجابهم سبحانه Ùˆ تعالى Ùˆ كان عليه أهون من سلك فيه خرز انقطع فذهب Ùˆ لكن لا نريد غير ما أراده اللّه تعالى‏ «19».
الخلاصة
لقد ارتفع بتلك البراهين القويمة الستر المرخى على الحقيقة فظهرت بأجلى مظاهرها Ùˆ برزت للباحث النيقد محفوفة بصدق Ùˆ يقين فهو إذا جد عليم بأن أئمة الهدى كانوا على علم بمجاري القدر النازل Ùˆ القضاء الذي لا يرد بما انتابهم من الكوارث لأنهم قيد إشارة المولى الجليل عز شأنه بكل ما يستقبلهم من سراء Ùˆ ضراء Ùˆ لم يبارحهم هذا العلم المفاض عليهم من «Ù…بدأ الوجود» جلت آلاؤه أولا Ùˆ اعلام النبي صلى اللّه عليه Ùˆ آله Ùˆ سلم به ثانيا Ùˆ وقوفهم على (الصحيفة النازلة) على جدهم ثالثا Ùˆ حيث إن اللّه تعالى أعد لهم منازل Ùˆ شرفا خالدا لا ينالونه إلا بالشهادة Ùˆ ازهاق تلك النفوس المقدسة لذلك ضحوا حياتهم الثمينة بخوعا لأمر اللّه تعالى Ùˆ جريا مع المصالح الواقعية التي لا تدركها أحلام البشر Ùˆ لا يعرف دقيقها غير علام الغيوب Ùˆ لا يلزمنا معرفة وجه الصلاح Ùˆ الفساد في جميع التكاليف الشرعية Ùˆ إنما الذي يوجبه العقل طاعة المولى الجليل عز شأنه في أوامره Ùˆ نواهيه.
و إني لأعجب ممن اصاخ لهتاف الأحاديث الصحيحة مسلما مذعنا بأن الأئمة من آل محمد يعلمون ما كان و يكون و عندهم علم المنايا و البلايا كيف خفي عليه ضوء الكثير من الأحاديث المصرحة بأن ما صدر منهم من كلام أو سكوت و قيام أو قعود إنما هو أمر موجه إليهم خاصة من اللّه سبحانه على لسان رسوله الأمين على الوحي الإلهي و لم يعزب عنهم صغير و لا كبير و لم يجهلوا شيئا من ذلك حتى ساعة الموت، و مما يشهد لذلك قول الإمام أبي جعفر الباقر عليه السّلام:
إني لأعجب من قوم يتولونا و يجعلونا أئمة و يصفون أن طاعتنا مفترضة كطاعة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم ثم يكسرون حجتهم و يخصون أنفسهم لضعف قلوبهم فينقصونا حقنا و يعيبون ذلك على من اعطاه اللّه برهان حق معرفتنا و التسليم لأمرنا أترون اللّه تعالى افترض طاعة أوليائه على عباده ثم يخفي عليهم أخبار السماء و يقطع عنهم مواد العلم فيما يرد عليهم مما فيه قوام دينهم.
فقال له حمران يا ابن رسول اللّه أرأيت ما كان من قيام أمير المؤمنين و الحسن و الحسين و خروجهم و قيامهم و ما اصيبوا به من قبل الطواغيت و الظفر بهم حتى قتلوا و غلبوا؟
فقال له أبو جعفر عليه السّلام: يا حمران إن اللّه تبارك Ùˆ تعالى قدّر ذلك عليهم Ùˆ قضاه Ùˆ أمضاه Ùˆ حتمه على سبيل الاختيار ثم أجراه عليهم فبتقدم علم إليهم من رسول اللّه قام علي Ùˆ الحسن Ùˆ الحسين Ùˆ بعلم منه صمت من صمت منا Ùˆ لو أرادوا أن يدفع اللّه تعالى عنهم Ùˆ ألحوا عليه في إزالة ملك الطواغيت لكان ذلك أسرع من سلك منظوم انقطع فتبدد Ùˆ ما أصابهم ليس لذنب اقترفوه Ùˆ لا لمعصية خالفوا اللّه فيها Ùˆ لكن لمنازل Ùˆ كرامة من اللّه أراد أن يبلغهم اياها فلا تذهبن بك المذاهب يا حمران‏ «20».
و من اشعاعات هذا الحديث الشريف تظهر أسرار غامضة و حكم إلهية اختص اللّه بها أولياءه خزان وحيه و بها ميزهم عن سائر البشر و هي:
Ø£- علمهم بكل شي‏Ø¡ Ùˆ عدم انقطاع أخبار السماء عنهم Ùˆ عمومه شامل للموضوعات بأسرها.
ب- إن ما جرى عليهم من الاخطار Ùˆ قهر أرباب الجور ناشى‏Ø¡ عن مصالح لا يعلمها إلا المهيمن جل شأنه.
ج- إن ما صدر منهم من الحرب Ùˆ الجهاد Ùˆ القتل في سبيل الدعوة الالهية Ùˆ السكوت عما يفعله أئمة الضلال Ùˆ مشاهدتهم تمادي الأئمة في الطغيان Ùˆ اقدامهم على ما فيه استئصال حياتهم القدسية طاعة لأوامر المولى الخاصة بهم Ùˆ انقيادا لتكليفه بلا إلجاء من اللّه لهم في شى‏Ø¡ من ذلك Ùˆ إنما هم مختارون فيه كاختيار غيرهم في جميع التكاليف.
د- التسليم للقضاء المحتوم و الأجل المبرم و عدم التوسل إلى الباري تعالى في ازاحة العلة لينالوا بالشهادة التي هي أشرف الموت الدرجات الرفيعة و المنازل العالية التي لا تحصل إلا بهذا النوع من ازهاق النفس.
و في نفس هذه العلة أجاب أبو الحسن الرضا عليه السّلام من سأله عن جواز تعريض أمير المؤمنين نفسه للقتل مع علمه بالساعة و القاتل فقال عليه السّلام: لقد كان كل ذلك و لكنه خير تلك الليلة لتمضي المقادير.
فدلنا هذا و أمثاله على أن إقدام أهل البيت على ما فيه التهلكة إنما هو من باب الطاعة و امتثال التكليف الموجه إليهم خاصة فلا يتطرق إلى ساحة علمهم نقص و لا أنّ إقدامهم على ما فيه الهلكة مما يأباه العقل و إليه ذهب المحققون من أعلام الإمامية.
فيقول الشيخ المفيد في جواب المسائل العكبرية: لسنا نمنع أن يعلم الإمام أعيان ما يحدث على التفصيل و التمييز و يكون بإعلام اللّه تعالى كما لا نمنع أن يتعبد اللّه أمير المؤمنين بالصبر على الشهادة و الاستسلام للقتل فيبلغه بذلك علو الدرجة ما لا يبلغه إلا به فيطيعه في ذلك طاعة لو كلفها سواه لم يردها و لا يكون أمير المؤمنين ملقيا بيده إلى التهلكة و لا معينا على نفسه معونة تستقبح في العقول و لا يلزم فيه ما يظنه المعترضون كما لا نمنع أن يكون الحسين عليه السّلام عالما بموضع الماء و أنه قريب منه بقدر ذراع فلو حفر لنبع له الماء، فامتناعه من الحفر لا يكون فيه إعانة على نفسه بعد أن يكون متعبدا بترك السعي في طلب الماء حيث يكون ممنوعا منه و لا يستبعد العقل ذلك و لا يقبحه و كذلك في علم الحسن عليه السّلام بعاقبة موادعة معاوية. فقد جاء الخبر بعلمه به و كان شاهد الحال يقضي به غير أنه دفع به عن تعجيل قتله و تسليم أصحابه إلى معاوية و كان في ذلك لطفا في بقائه إلى حال مضيه و لطفا لبقاء كثير من شيعته و أهله و ولده و دفع فساد في الدين أعظم من الفساد الذي حصل عند هدنته و كان عليه السّلام عالما بما صنع و لكن اللّه تعالى تعبده بذلك.
Ùˆ يقول العلامة الحلي في جواب من سأله عن تعريض أمير المؤمنين نفسه للقتل بأنه يحتمل أن يكون قد أخبر بوقوع القتل في تلك الليلة Ùˆ في أي مكان يقتل Ùˆ أن تكليفه مغاير لتكليفنا فجاز أن يكون بذل مهجته في ذات اللّه واجبا كما يجب الثبات على المجاهد Ùˆ إن كان ثباته يفضي إلى القتل‏.
Ùˆ علم الشيخ الجليل الشيخ يوسف البحراني: أن رضاهم بما ينزل بهم من القتل بالسيف أو السم Ùˆ كذا ما يقع بهم من الهوان على أيدي أعدائهم الظالمين مع كونهم عالمين قادرين على دفعه إنما هو لما علموه من كونه مرضيا له سبحانه Ùˆ تعالى Ùˆ مختارا بالنسبة إليهم Ùˆ موجبا للقرب من حضرة قدسه فلا يكون من قبيل الالقاء باليد إلى التهلكة الذي حرمته الآية إذ هو ما اقترن بالنهي من الشارع نهي تحريم Ùˆ هذا مما علم رضاه به Ùˆ اختياره له فهو على النقيض من ذلك إلا أنه ربما ينزل بهم شي‏Ø¡ من تلك المحذورات قبل الوقت المعدود Ùˆ الأجل المحدود فلا يصل إليهم منه شي‏Ø¡ من الضرر Ùˆ لا يتعقبه المحذور Ùˆ الخطر فربما امتنعوا منه ظاهرا Ùˆ ربما احتجبوا منه باطنا Ùˆ ربما دعوا اللّه في رفعه عنهم حيث علموا أنه غير مراد اللّه سبحانه في حقهم Ùˆ لا مقدّر عليهم حتما، Ùˆ بالجملة إنهم ( عليهم السّلام ) يدورون مدار ما علموه من الأقضية Ùˆ الاقدار Ùˆ ما اختاره لهم القادر القهار المختار Ùˆ على هذا مشى العلامة المجلسي Ùˆ المحقق الكركي Ùˆ الحسن بن سليمان الحلي من تلامذه الشهيد الأول Ùˆ غيرهم.
____________


(2) أحكام القرآن للجصاص ج 1 ص 309 في آية التهلكة.
(3) المصدر السابق ج 1 ص 309.
(4) الأحكام لابن العربي ج 1 ص 49 آية التهلكة طبع أول سنة 1331 ه.
(5) مهج الدعوات للسيد رضي الدين بن طاووس ص 365 طبع بمبي.
(6) مهج الدعوات ص 299.
(7) أمالي الصدوق ص 227 مجلس 60.
(8) عيون أخبار الرضا ص 57.
(9) مرآة العقول ج 1 ص 188 و روضة الواعظين ص 185.
(10) كامل الزيارات لابن قولويه ص 223.
(11) مهج الدعوات.
(12) كامل البهائي من ص 453 إلى ص 456 بالفارسية مؤلفه جليل في الطائفة من علماء القرن السابع الحسن بن علي بن محمد الطبري المازندراني (رياض العلماء).
(13) الخرائج ص 22 في معجزاته طبع الهند.
(14) البحار ج 10 ص 133 عن عيون المعجزات.
(15) الارشاد للمفيد و الخرائج.
(16) كتابنا في الإمام الرضا ص 45.
(17) الإرشاد و اعلام الورى ص 205.
(18) بصائر الدرجات للصفار ص 34 و رسالة ابن بدرون ص 156 شرح قصيدة ابن عبدون.
(19) أصول الكافي باب أن الأئمة يعلمون متى يموتون و الخرائج ص 143 هند.
(20) الكافي على هامش مرآة العقول ج 1 ص 190 باب أنهم يعلمون ما كان و بصائر الدرجات للصفار ص 33 و الخرائج للراوندي ص 143 هند.