شبهات و ردود

هل كان الحسين (عليه السّلام) يطلب الحكم بثورته ؟
من الشبهات القويّة حول قيام الحسين (عليه السّلام) بثورته المباركة هي شبهة : أنّ قيامه بها هل كان طلباً للملك والسلطان والاستيلاء على الحكم أم لا ؟
وقد تعرّض الكثيرون ممن كتبوا عن الحسين (عليه السّلام) لهذه الشبهة فنفوها نفياًً كليّاً مؤكّدين أنّ الحسين (عليه السّلام) لم ينهض طلباً للحكم ولا كان من أهدافه انتزاع السلطة من الاُمويِّين ولم يكن يفكّر في ذلك أبداً فكأنّ هؤلاء يرون طعناً في كرامة الحسين (عليه السّلام) ونقصاً في قدسية ثورته أن ينسبوا إليه الرغبة في الحكم والميل إلى تسلّم السلطة والعمل من أجل انتزاع الخلافة من أيدي الاُمويِّين .
ويزعمون أنّ الحسين (عليه السّلام) أجلّ وأرفع من أن يطلب الإمرة والحكم بتلك المحاولة بل كان غرضه الأوحد القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن طريق التضحية والشهادة فقط .
وهؤلاء يُشكرون على كلّ حال على نواياهم الطيّبة تجاه الحسين (عليه السّلام) ولكنّ الحقيقة والواقع هو خلاف ما يرون ويزعمون ؛ وذلك لأنّ طلب الحكم والسلطة والإمرة ليس قبيحاً دائماً ولا هو مذموم مطلقاً ؛ بل إذا كان طلب الحكم والسلطان صادراً من أهله الأكفّاء ولغرض الإصلاح وإحقاق الحقّ ومكافحة الباطل فإنّه حينئذ يكون محبوباًَ عقلاً وقد يكون واجباً شرعيّاً يفرضه الله تعالى على الإنسان الصالح اللائق للحكم والإمارة مثله تماماً كمثل طلب أي شيء آخر من وسائل الحياة الاُخرى ؛ كطلب المال والجاه مثلاً كما قال (عليه السّلام) : اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً واعمل لآخرتك . . . .
وكيف يكون طلب الحكم نقصاً أو عيباً وقد طلبه من قبل أبوه أمير المؤمنين (عليه السّلام) طيلة خمس وعشرين سنة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى أن وصل إليه بعد مقتل عثمان ؟! ولكنّه (عليه السّلام) أوضح لنا غاياته من وراء ذلك الطلب فقال : أما والله إنّ إمرتكم لأهون عليّ من هذا النعل ؛ إلاّ أن اُقيم حقّاً وأدفع باطلاً .
وقال (عليه السّلام) أيضاً في خطبة له : اللّهمَّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك ؛ فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطّلة من حدودك .
فإذاً لو كان طلب الحكم والسلطان لا لغرض المنافسة والتفاخر ولا للحصول على الشهوات واللذّة الحقيرة ولا لخدمة مصلحة شخصية بل كان لغرض إعادة معالم الدين والإصلاح في البلاد ونشر العدل والأمن بين العباد وإنصاف المظلوم من الظالم وأمثالها فالطلب حينئذ أمر حسن ومحبوب ومرغوب فيه شرعاً ومنطقاً فأيّ ضير على الحسين (عليه السّلام) إذا كان يطلب السلطة والحكم بتلك الثورة المقدّسة لنفس هذه الأهداف ؟!
أوَليس الحكم والسلطان حقّه الشرعي والعقلي بعد أبيه وأخيه (عليهما السّلام) ؟! أوَليس هو (عليه السّلام) أحد اُولي الأمر الذين فرض الله طاعتهم على عباده في محكم كتابه فقال : {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ؟! أوَليس هو (عليه السّلام) أحد أئمّة المسلمين الذين نصّ عليهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) جملة وتفصيلاً ؟! أوَليس هو (عليه السّلام) أحد الإمامين اللذين نصّ الرسول على ثبوت الإمامة لهما سواء قاما أم قعدا كما في الحديث المتواتر : الحسن والحسين إمامان . . . ؟!
ثمّ هل كان في عصر الحسين (عليه السّلام) مَنْ هو أجدر بالإمرة والخلافة من سيد شباب أهل الجنة أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) ؟! ومن الجهة الثانية نسأل : يا ترى ! ما الذي كان يفعله الحسين (عليه السّلام) لو استلم السلطة ؟ أوَليس كان يفعل ما فعله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السّلام) وكلّ الأنبياء والمرسلين والأوصياء الحاكمين ؟
فإذاً أيّ نقص يرد على ثورة الحسين (عليه السّلام) لو كانت بقصد الاستيلاء على الحكم وطلب السلطان ؟!
إنّ الذين يهاجمون ثورة الحسين (عليه السّلام) من طريق اتّهامها بأنّها كانت طلباً للملك وصراعاً على السلطة هؤلاء لم يعرفوا شيئاً عن شخصية الحسين (عليه السّلام) بل نظروا إليه كزعيم سياسي قام طلباً للسلطة ولأجل السلطة ككلّ الزعماء السياسيين الدنيويين الماديين في العالم .
أمّا لو كانوا قد عرفوا حقيقة الحسين (عليه السّلام) وأهدافه البعيدة وغاياته الرئيسة من تلك الثورة وإنّ طلبه للسلطة كان لأجل التوصّل بها إلى تلك الغايات الإنسانية العليا وإنّ الطريق الذي سلكه طلباً للسلطة هو طريق المثالية والشرف والنبل والشهامة والكرم وعدل عن الطريق التقليدي الذي يسلكه عادة الزعماء السياسيون وهو طريق الغاية تبرر الواسطة وإنّ الملك عقيم .
أقول : لو عرف اُولئك المهاجمون هذه الاُمور عن الحسين (عليه السّلام) لعدلوا عن مسلك الاتّهام . وهذا هو الاُستاذ العقّاد يردّ عليهم في كتاب أبي الشهداء فيقول بالحرف : وأيسر شيء على الضعفاء الهازلين أن يذكروا هنا طلب الملك ؛ ليغمروا به شهادة الحسين وذويه فهؤلاء واهمون ضالون مغرقون في الوهم والظلال ؛ لأنّ طلب الملك لا يمنع الشهادة وقد يطلب الرجل الملك شهيداً قدّيساً وقد يطلبه وهو مجرم بريء من القداسة . وإنّما هو طلب وطلب وإنّما هي غاية وغاية وإنّما المعوّل في هذا الأمر على الطلب لا على المطلوب ؛ فمَنْ طلب الملك بكلّ ثمن وتوسّل له بكلّ وسيلة وسوّى فيه بين الغصب والحقّ وبين الخداع والصدق وبين مصلحة الرعية ومفسدتها ففي سبيل الدنيا يعمل لا في سبيل الشهادة .
ومَنْ طلب الملك وأباه بالثمن المعيب وطلب الملك حقّاً ولم يطلبه لأنّه شهوة وكفى وطلب وهو يعلم أنّه سيموت دونه لا محالة وطلب الملك وهو يعتزّ بنصر الإيمان ولا يعتزّ بنصر الجند والسلاح وطلب الملك رفعاً للمظلمة وجلباً للمصلحة كما وضحت له بنور إيمانه وتقواه فليس ذلك بالعامل الذي يخدم نفسه بعمله ولكنّه الشهيد الذي يلبّي داعي المروءة والأريحية ويطيع وحي الإيمان والعقيدة ويضرب للناس مثلاً يتجاوز حياة الفرد الواحد وحياة الأجيال الكثيرة . انتهت كلمة العقاد .
ويقول هو أيضاً في نفس الكتاب : إنّ الحسين (عليه السّلام) طلب الخلافة بشروطها التي يرضاها ولم يطلبها غنيمة يحرص عليها مهما تكلّفه من ثمن ومهما تطلب من وسيلة فكانت عنايته بالدعوة والإقناع أعظم جداً من عنايته بالتنظيم والإلزام .
أعود فأقول : ما المانع من أن يطلب الحسين (عليه السّلام) الملك والسلطة بعد أن طلبها نبي الله سليمان بن داود (عليه السّلام) من ربّه صراحة فقال : {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35] وطلبها إبراهيم الخليل (عليه السّلام) لذرّيّته بعد أن حصل عليها هو لنفسه فقال : {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] وإلى غير ذلك من الشواهد والأمثال .
ونوجّه الخطاب ثانياً إلى هؤلاء المدافعين عن الحسين (عليه السّلام) بأنّه لم ينهض طلباً للملك فنقول لهم : ها هو الحسين (عليه السّلام) بالذات يصرّح بأنّه يطلب الإمرة والسلطان ؛ لأنّه أولى بهما وأحقّ من يزيد بن معاوية وغيره .
نعم انظر إلى كلماته التي قالها في مجلس الوليد حاكم المدينة وبمحضر من مروان بن الحكم فقال (عليه السّلام) : نحن أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنزيل . ويزيد رجل فاسق فاجر شارب للخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق والفجور ؛ ومثلي لا يبايع مثله . ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا أولى بالخلافة والأمر .
فالحسين (عليه السّلام) يطلب الخلافة والأمر ولكن من طريق المنطق والموازين العادلة والتحكيم الحرّ والانتخاب الشعبي الصحيح . وعلمه بالشهادة والقتل دون الوصول إليها لا ينافي طلبه لها ولا يتعارض مع سعيه للحصول عليها ؛ لأنّ في الطلب والسعي إتمام للحجّة على الناس وإفراغ للذمّة من المسؤوليّة أمام الله والتاريخ حتّى لا يُقال أنّه قصر أو تكاسل ولو رشّح نفسه وسعى لها لحصل عليها .
ومن قبله أخوه الحسن (عليه السّلام) كان يعلم بكلّ ذلك المصير الذي وصل إليه علماً كاملاً ومع ذلك لم يمنعه ذلك العلم من التهيّؤ وتجهيز الجيش والمسير نحو الحرب مع العدو واتّخاذ كافة اللوازم المطلوبة .
وهذا أبوهما أمير المؤمنين (عليه السّلام) فإنّه طلب الخلافة والإمرة التي هي حقّه الشرعي والطبيعي بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) طلبها بكلّ الوسائل ما عدا السيف ؛ إذ رأى أنّ في استعمال السيف يومئذ خطراً على مصلحة الإسلام العُليا ولكن استعمل الوسائل السلمية حتّى إنّه صار يحمل زوجته فاطمة وابنيه الحسن والحسين (عليهم السّلام) ويطوف بهم على زعماء المهاجرين والأنصار وكبار الصحابة ؛ مطالباً بحقّه وحقوق هؤلاء مذكّراً لهم بالنصوص النبويّة الشريفة التي سمعوها من الرسول (صلّى الله عليه وآله) في حقّه وحقّ هؤلاء .
واستمر على ذلك أربعين يوماً وهو يعلم علم اليقين أنّه لا يحصل على حقّه من الخلافة ولا هؤلاء يحصلون على حقوقهم من الخمس ومن الميراث ومن فدك ؛ ولكن : {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } [الأنفال: 42] .
كما أنّه (عليه السّلام) حضر مجلس الشورى مع الخمسة الآخرين الذين رشحهم عمر بن الخطاب للخلافة حضر معهم الإمام وطالب بالخلافة وحاجج القوم وبذل كلّ ما في وسعه من الجهد للوصول إلى الحكم فلم يصل وكان يعلم علم اليقين أنّه لا يصل ؛ ولكن لإتمام الحجّة وإبراء الذمّة كما سبق .
وذكرنا في موضوع تعليل خروج الحسين (عليه السّلام) إلى العراق أنّ الظواهر هي الحجّة في العلائق والنظم الاجتماعية الإسلاميّة وواجب النبي والإمام أن يسيرا مع الناس حسب ظاهرهم ومقتضى الأسباب والعوامل الطبيعية العادية ولا يرتّبا الآثار عليهم حسب المعلومات الغيبية والتنبؤات التي ليس عليها دليل قائم أو أثر ملموس .
وبكلمة موجزة نقول : إنّ لأهل البيت (عليهم السّلام) حقّاً وإنّ عليهم لواجباً ؛ أمّا حقّهم فالقيادة والإمرة وأمّا واجبهم فإظهار الحقّ وبيانه .
وظلامتهم الكبرى في الحياة أنْ قاموا بواجبهم أحسن قيام ولكن حرموا من كافة حقوقهم . وإنّ غصب حقّهم عنهم لم يمنعهم من القيام بواجبهم على أنّ ذلك الحقّ لو وصل إليهم كاملاً لاستطاعوا من أداء مسؤوليتهم على وجه أكمل وأنفع للأمّة كما قال أمير المؤمنين (عليه السّلام) : والله لو ثُنيت لي الوسادة وجلستُ عليها لأفتيت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم حتّى ينطقوا جميعاً ويقولوا : صدق عليّ بما حكم .
وكما قال سلمان الفارسي (رحمه الله) في خطبة له بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) : والله لو وليتموها علياً لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم ولو دعوتم الطير في السماء لأتتكم والحيتان في البحار لأجابتكم ولما طاش سهم من سهام الله ولا تعطّل حكم من أحكام الله ؛ ولكن حظّكم أخطأتم ونصبيكم ضيعتم .
وقالت فاطمة (عليها السّلام) : والله لو مالوا عن الحجّة اللائحة وزالوا عن قبول الحجّة الواضحة , لردّهم إليها ولحملهم عليها ولسار بهم سيراً سجحاً ؛ لا يكلح خشاشه ولا يكلّ سائره ولا يملّ راكبه . ولأوردهم منهلاً نميراً صافياًَ ؛ تطفح ضفتاه ولا يترنّق جانباه ولأصدرهم بطاناً ونصح لهم سرّاً وإعلاناً ولم يكن يتحلّى من الدنيا بطائل . . . .
وفي ختام هذا الموضوع نستمع إلى مقطوعة شعرية رائعة من المرحوم الحاج هاشم الكعبي (رحمه الله) :
أوَ مـا عـلمتَ الماجدين غـداة جـدّوا بـالرحيلِ
عـقدوا على البينِ النكاحَ وطـلّـقـوا سننَ القفولِ
عـشـقوا العُلا ففنوا بها والـغصنُ يُرمى بالذبولِ
أوَمـا سمعت ابن البتولةِ لـو دريـت ابنَ البتولِ
إذ قـادها شعث النواصي عــاقـدات لـلـذيولِ
مـتـنـكب الوردَ الذميمَ مـجانب المرعى الوبيلِ
طـلاّب مجد بالحسام ال عـضبِ والرمحِ الطويلِ
مـتطلّباً أقصى المطالب خـاطبَ الخطب الجليلِ
ظـلّت اُمـيّة مـا تريد غـداة مـقترع النصولِ
رامت تسوق المصعب ال هــدّار مـستاق الذلولِ
و يـروح طـوعَ يمينها قـود الجنيب أبو الشبولِ
رامت لعمر ابن النبي الطْ طُـهر مـمتنع الحصولِ
وغـوى بـها جهل بها والبغي من خُلق الجهولِ
لــفّ الـرجال بمثلها وثنا الخيولَ على الخيول
و أبـاحها عضب الشبا لا بـالـكهام و لا الكليلِ
لـسـنـانِهِ ولـسـانهِ صـدقان من طعن وقيلِ
ذات الـفـقـارِ بـكفّه و بـكتفه ذات الفضولِ
وأبـو الـمـنـيّة سيفُهُ وكذا السحاب أبو السيولِ
يـابن الذين توارثوا ال عـليا قـبيلاً عن قبيلِ
والـسـابقين بـمجدهم فـي كلّ جيل كلَّ جيلِ
إنْ تـمس منكسر اللوى ملقىً على وجه الرمولِ
فـلـقد قـتـلتَ مهذّباً عن كلِّ عيب في القتيلِ
هل كان الحسين (عليه السّلام) عالماً بمصيره المعروف ؟
يكثر التساؤل حول علم الحسين (عليه السّلام) بما صار إليه عاقبة أمره حسب ما هو معروف هل كان من باب الاحتمال أو الظن الذي يحتمل العكس والخلاف ؛ فيكون حينئذ قد خُدع بكتب أهل العراق وغُرّر به من قبلهم ؟ أم كان ذلك العلم من باب القطع والجزم واليقين الذي لا شك فيه ؛ فيكون حينئذ قد أقدم على حركة انتحارية ؟
نقول : أجل كان عالماً بما جرى علماً يقينياً قاطعاً لا يشوبه شك وقد أعلن عنه في مكّة قُبيل الخروج بخطبته التي قال فيها (عليه السّلام) : وكأنّي بأوصالي هذه تقطّعها . . . . ولكن مع ذلك لم يكن خروجه عملاً انتحارياًً بل كان قتله نتيجة طبيعية للظروف والأحداث العادية التي أوجدها الناس بجهلهم وسوء تصرفهم من قبيل علم الطبيب مثلاً بموت هذا المريض في النهاية ؛ بسبب تطوّر المرض ومضاعفاته الطبيعية التي لا خيار للطبيب فيها وجوداً ولا عدماً وإنّما عليه أن يراقبها ويساير مراحلها بما عنده من مخففات ومسكنات فقط وهو بانتظار نتيجتها الطبيعية القصوى .
كذلك علم الحسين (عليه السّلام) بذلك المصير فهو (عليه السّلام) كان يعلم من البداية أنّ يزيد سيتولى على الخلافة ويطلب منه البيعة وهو يمتنع من البيعة فيأمر بقتله في المدينة ؛ فيخرج منها حفظاً لدمه ودفاعاً عن كرامته ويكتب إليه أهل العراق بالطاعة والبيعة له فتتم عليه الحجّة الظاهرية بحسب القوانين الشرعية فإذا وصل إليهم يغدرون به ويحصرونه في وادي كربلاء . وهكذا تتسلسل الحوادث حسب مجراها الطبيعي حتّى تؤدّي إلى العاقبة التي حصلت ولم يكن بوسع الحسين (عليه السّلام) أنْ يغيّر أو يدفع شيئاً منها .
نعم حاول بكلّ ما استطاع أنْ يخفف من وطأتها ويؤخّر من حدوثها فما استطاع ؛ لوجود الموانع والدوافع الشرعية والزمنية .
صحيح إنّه لو كان قد بايع ليزيد لتغيّر وجه مصيره إلى حد كبير ولكن قد أثبتنا سابقاً أنّ ذلك كان حراماً على الحسين (عليه السّلام) من الوجهة الشرعية والأخلاقية والعرفية وجريمة كبرى على شرفه ودينه واُمّة جده (صلّى الله عليه وآله) .
وعلى هذا فقس باقي الحوادث المتتابعة بعدها التي ما كان باستطاعة الحسين (عليه السّلام) دفعها إلاّ بالتنازل عن كرامته والتخلّي عن مسؤوليته والخيانة لرسالته والأمانة الملقاة على عاتقه من قبل الله ورسوله والاُمّة .
والخلاصة : كان علم الحسين (عليه السّلام) علماً بترتب الحوادث على عواملها الطبيعية والمعلولات على عللها أو المسببات على أسبابها ؛ تلك الأسباب والعلل التي أوجدها الناس بسوء اختيارهم وضعف الوازع الديني في نفوسهم فهم محاسبون عليها ومعاقبون بها يوم تجزى فيه كلّ نفس ما كسبت : {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227].
ومن هنا قيل : إنّه (عليه السّلام) جمع بين التكليفين في آن واحد ؛ التكليف الباطني : وهو تكليفه من الله بأنْ يفدي الدين بنفسه وأنّه شهيد هذه الاُمّة والتكليف الظاهري : وهو تكليفه العرفي الطبيعي أي مسايرة الأحداث والتطوّرات حسب متطلباتها العادية . وهذا من خصائصه (عليه السّلام) .
ولعلك تقول : من أين علم الحسين (عليه السّلام) بتلك القضايا الغيبية قبل وقوعها ؟
فأقول : وصلت إليه من أبيه علي (عليه السّلام) وجده محمد (صلّى الله عليه وآله) وبالتالي عن الله سبحانه وتعالى الذي هو وحده علاّم الغيوب . وقد أوحى سبحانه إلى رسوله (صلّى الله عليه وآله) بكلّ ما يجري على الحسين (عليه السّلام) .
فإنْ قلت : فلماذا لمْ يحفظ الله تعالى وليّه الحسين (عليه السّلام) ولم يدفع عنه القتل وهو العالم بكلّ شيء والقادر على كلّ شيء ؟
قلت في الجواب : لأنّ بقتله إحياء الدين وبدمه حفظ شريعة الإسلام فدار الأمر بين حياة الحسين (عليه السّلام) أو حياة الدين ؛ لأنّ الجمع بينهما يؤدي إلى الجبر وسلب الحرية الإنسانية وهو ممنوع في شريعة الله تعالى فكان الدين أولى بالحياة ؛ فالحسين (عليه السّلام) فداء الدين .
وبهذا صرّحت اُخته العقيلة زينب (عليها السّلام) لما جلست عند رأسه وهو صريع ورفعت طرفها نحو السماء وقالت : اللّهمَّ تقبل منّا هذا الفداء . وإلى هذا المعنى يرمز الحديث الشريف المشهور القائل : حسين منّي وأنا من حسين . فحسين منّي واضح أي ابني وولدي ولكن قوله (صلّى الله عليه وآله) : أنا من حسين . يعني أنّ بقاء ذكري وشريعتي وديني بالحسين أي بتضحية الحسين وشهادته .
ولقد قال بعض الخبراء وهو السيّد جمال الدين الأفغاني (رحمه الله) : إنّ الإسلام محمدي الوجود والحدوث وحسيني البقاء والاستمرار .
وقال المستشرق الألماني ماربين في الحسين (عليه السّلام) كلمته المعروفة : وإنّي أعتقد بأنّ بقاء القانون الإسلامي وظهور الديانة الإسلاميّة وترقّي المسلمين هو مسبب عن قتل الحسين (عليه السّلام) وحدوث تلك الفجائع المحزنة وكذلك ما نراه اليوم بين المسلمين من حس سياسي وإباء الضيم .
وقال أيضاً : لا يشك صاحب الوجدان إذا دقّق النظر في أوضاع ذلك العصر ونجاح بني اُميّة في مقاصدهم لا يشك أنّ الحسين (عليه السّلام) قد أحيا بقتله دين جدّه وقوانين الإسلام ولو لمْ تقع تلك الواقعة لمْ يكن الإسلام على ما هو عليه الآن قطعاً بل كان من الممكن ضياع رسومه وقوانينه حيث كان يومئذ جديد عهد . انتهى محلّ الشاهد من كلام ماربين المستشرق الألماني .
وأحسن تعبير عن هذا الواقع هو ما قاله ذلك الشاعر عن لسان الحسين (عليه السّلام) يوم عاشوراء :
إنْ كان دينُ محمد لمْ يستقمْ إلاّ بقتلي يا سوفُ خذيني
وقال السيد جعفر الحلي :
بقتلهِ فاح للإسلام طيبُ شذى وكلّما ذكرتهُ المسلمونَ ذكا
لماذا يأذن الحسين (عليه السّلام) لأصحابه بالتفرّق عنه ؟
أثبتنا في البحث السابق أنّ الإمرة والحكم كانا على رأس متطلّبات الحسين (عليه السّلام) من وراء ثورته الخالدة ؛ لأجل الوصول بهما إلى غايته الكبرى وهدفه الأعلى على أكمل وجه وهو إصلاح المجتمع وإعادة نظام الإسلام إلى المجتمع الإسلامي .
وطبعاً إنّ هذا الهدف لا يتمّ إلاّ من طريق السلطة فالسلطة إذاً كانت الطريق الأمثل أمام الحسين (عليه السّلام) للوصول إلى أداء رسالته وتحقيقها كاملة . والحسين (عليه السّلام) طلب السلطة وسعى إليها قطعاً وبلا شك .
وهنا يبرز سؤال ويعترضنا استفهام حساس وهو : لماذا إذاً أجاز لأتباعه وأصحابه الذين خرجوا معه وانضموا إليه أن يتفرّقوا عنه وهو في أمس حاجة إلى الاستكثار من الأعوان ؛ تحقيقاًَ لما طلب من الحكم والسلطان ؟! وفعلاً تفرّقوا عنه قبل لقاء العدو حتّى لمْ يبقَ معه منهم إلاّ القليل الذي لمْ يتجاوز النيف وسبعين رجلاً بعد أن كانوا معه حوالي ستة آلاف رجل تقريباً . فهل هذا سلوك ثائر يريد الاستيلاء على الحكم ؟
نقول : أجل إنّ الحسين (عليه السّلام) ثائر لأجل إحقاق الحقّ ونشر العدل والخير والحقّ لا يتحقّق من طريق الباطل والعدل لا ينشر بواسطة الظلم والخير لا يُعطى على أيدي المبطلين .
وبكلمة واحدة : الورد لا يُجنى من العوسج والعسل لا يُنال من الحنظل .
ومكلّف الأيامَ ضد طباعِها متطلب في الماء جذوةَ نارِ
إنّ الحسين (عليه السّلام) أراد السلطة لاستخدامها في مصلحة المجتمع ولخدمة الدين والإسلام فلا يجوز أنْ يطلبها بطريق خداع الجماهير والتغرير بهم وإغفالهم عن حقائق الاُمور وواقع الحوادث ورفع الشعارات الكاذبة والدعايات المضللة .
مثله مثل أبيه الإمام علي (عليه السّلام) الذي رفض الخلافة يوم الشورى لمّا توقّف حصولها على كلمة كذب واحدة حيث قيل له : نبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وعلى سيرة الشيخين أبي بكر وعمر . فقال (عليه السّلام) : كلا بل على كتاب الله وسنة رسوله فقط .
وكان (عليه السّلام) يسعه أنْ يقول نعم وينال الخلافة ثمّ يسير بعد ذلك حسب كتاب الله وسنة رسوله لا غير ولمْ يكن ملزماً بالشرط الأخير شرعاً ؛ لأنّ سيرة الشيخين إنْ كانت موافقة لكتاب الله وسنة رسوله فهي داخلة في الشرط حتماً وإنْ كانت مخالفة لهما فلا يجوز للمسلم أنْ يعمل بها ولكنّ الإمام (عليه السّلام) مع ذلك كره أنْ يقول لشيء نعم وهو يعلم من نفسه أنّه لا يلتزم به وبذلك فوّت الخلافة على نفسه مدّة اثني عشر سنة تقريباً وهي مدّة خلافة عثمان بن عفان .
فسياسة الحسين هي بعينها سياسة أبيه علي (عليه السّلام) وجدّه النبي (صلّى الله عليه وآله) وهي سياسة الإسلام والحقّ التي ترتكز على الصراحة والصدق والواقعية وتأبى الكذب والانتهازية واللف والدوران .
ثمّ إنّ الستة آلاف رجل الذين كانوا مع الحسين (عليه السّلام) كان أكثرهم من الأعراب وأهل الأطماع والمرتزقة الذين يتبعون القادة طمعاً في الغنائم والمناصب والأرزاق خرجوا مع الحسين (عليه السّلام) والتحقوا به في أثناء الطريق علماً منهم بأنّ الحسين (عليه السّلام) قادم على بلد قد دان له أهلها بالطاعة والولاء وبايعه أهلها بالإجماع وسوف ينتصر بهم حتماً ويصلون باتّباعه إلى مغانم وأرباح .
وكان الحسين (عليه السّلام) يعرف ذلك في نفوسهم فلمّا تجلّى غدر أهل العراق وظهر انقلابهم ولمْ يبقَ هناك أمل في انتصاره بهم على الأعداء بل أصبحوا هم من الأعداء والمحاربين له ؛ وذلك بقتلهم سفيره مسلم بن عقيل (عليه السّلام) وقتل رسوليه عبد الله بن يقطر وقيس بن مسهر الصيداوي (رحمهما الله تعالى) عند ذلك تغيّر مجرى الثورة السابق وتحوّلت من حرب هجومية متكافئة وجهاد منظم مفروض حسب المقاييس الشرعية إلى حرب فدائية استشهادية ليس فيها أمل في الانتصار العسكري وإنّما المقصود منها التضحية والشهادة ؛ لغرض التوعية وتنبيه الرأي العام ولفت الأنظار إلى حقيقة الحكم القائم وواقع الزمرة الحاكمة وعزلهم عن الاُمّة المسلمة فيحبط بذلك مؤامراتهم العدوانية ضد الإسلام ومصلحة المسلمين .
قال العقاد : وعلى هذا النحو تكون حركة الحسين (عليه السّلام) قد سلكت طريقها الذي لا بدّ لها أن تسلكه وما كان لها قطّ من مسلك سواه ؛ حيث وصل الأمر إلى حدّ لا يعالج بغير الاستشهاد .
لذا فقد كره الحسين (عليه السّلام) أنْ يترك أتباعه غافلين عن هذا التطوّر وجاهلين لهذا التحوّل المصيري الهام ؛ خوف أنْ يُباغتوا بالمصير الذي لا يرغبون فيه فيسلّموه عند الوثبة ويُهزمون من الميدان عند اللقاء ويتفرّقون عنه ساعة بدء المعركة وفي ذلك وهن كبير يصيب معنوية القائد ويضعف مقاومة المخلصين من أصحابه . وإنّ تلك الإجازة لهم بالانصراف إذا شاؤوا كانت من الحسين (عليه السّلام) بالنسبة لهم :
أولاً : للاختيار والامتحان .
ثانياً : بمثابة مخض وغربلة فاستخرج الزبدة منهم وهم نيف وسبعون رجلاً وقد بلغوا إلى ليلة عاشوراء إلى ما يقارب الثلاثمئة رجل كلّ منهم فدائي مخلص للحسين (عليه السّلام) بايعوه على الموت واختاروا الشهادة على الحياة والقتل على البقاء في الدنيا .
ولقد اختبرهم مراراً فما وجد فيهم إلاّ الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنيّة دونه استئناس الطفل بلبن اُمّه حسب شهادة الحسين (عليه السّلام) في حقّهم . قالوا له في بعض تلك الاختبارات : يا سيدنا لو كانت الدنيا لنا باقية وكنّا فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها . فقال لهم الحسين (عليه السّلام) : اعلموا أنّكم كلّكم تُقتلون ولا يفلت منكم أحد . فقالوا : الحمد لله الذي مَنّ علينا بشرف القتل معك ولا أرانا الله العيش بعدك أبداً .
وقال له مسلم بن عوسجة الأسدي (رحمه الله) : أنحن نتخلّى عنك ؟! وبماذا نعتذر إلى الله في أداء حقّك ؟! أما والله لا اُفارقك حتّى أطعن في صدورهم برمحي وأضرب بسيفي ما ثبت قائمة بيدي . ولو لمْ يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة حتّى أموت معك .
وقال له سعيد بن عبد الله الحنفي : والله لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسوله فيك . أما والله لو علمت أنّي اُقتل ثمّ أحيا ثمّ اُحرق حياً ثمّ أُذرى ويُفعل بي ذلك سبعين مرّة لما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك . وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً ؟!
وقال له زهير بن القين البجلي (رحمه الله) : والله لوددت أنّي قُتلت ثمّ نُشرت ثمّ قُتلت حتّى أُقتل كذلك ألف مرّة وأنّ الله (عزّ وجلّ) يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك . وهكذا تكلّم الباقون من أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً فجزاهم الحسين (عليه السّلام) خيراً .
أجل والله جزاهم الله خيراً ؛ لقد سجّلوا بموقفهم هذا رقماً قياسياً خالداً وضربوا أروع مثال للتضحية في سبيل الكرامة وللعمل الفدائي الصحيح ألا هكذا فليكن العمل الفدائي وإلاّ فلا .
فهم قدوة كلّ عمل فدائي مثمر ومخلص ولا يمكن أن ينجح أي عمل فدائي ما لمْ يكن الحسين (عليه السّلام) وأصحابه مثله الأعلى وقدوته المُثلى ؛ إخلاص للقضية واستصغار لكلّ غال وعزيز في سبيلها ودون تحقيقها .
ولقد أجاد مَنْ وصفهم بقوله :
فـسـامـوهم إمّـا الـحياة بذلة أو الـموت فاختاروا أعزّ المراتبِ
بـنفسي هُمُ من مستميتين كسّروا جفون المواضي في وجوهِ الكتائبِ
وصالوا على الأعداء أُسداً ضوارياً بعوج المواضي لا بعوج المخالبِ
أُصـيـبـوا ولكن مقبلينَ دماؤهم تـسيل على الأقدامِ دون العراقبِ
وأخيراً نقول : إنّ الحسين (عليه السّلام) حافظ على قدسية ثورته ونبل نهضته وشرف تضحيته بذلك العمل أي بأنْ أبعد عنها الأوباش وأهل الأطماع والانتهازيين ؛ عملاً بمضمون الآية الكريمة : {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا } [الكهف: 51] وعملاً بالقاعدة المعروفة : فاقد الشيء لا يعطيه .
أجل إنّ شرف كلّ ثورة يتوقّف إلى حدّ كبير على شرف الثائرين وحسن نواياهم وإخلاص نياتهم ثمّ إنّ الإصلاح لا يأتي على أيدي غير الصالحين وهذا من أعظم الدروس نفعاً للأجيال في ثورة الحسين (عليه السّلام) .