شبهات و ردود

..... ذهب جملة من أساطين المذهب وعلمائه من الفقهاء أو المحدّثين أو المتكلّمين الإماميّة إلى أنّ في الشريعة الإسلاميّة ثلاثة معالِم ركنيّة عماديّة كتبَ الله المحافظة عليها وعدم انطماسها وإنّ فيها بقاء الدين وهي :
الأوّل : القرآن الكريم قال تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
الثاني : الحجّ والمسجد الحرام : {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125].
الثالث : الشعائر الحسينيّة كما هو لسان العرب وقال تعالى : {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } [النور: 35، 36] وبين علي وفاطمة وولداهما من أعظمها كما في روايات الفريقين وقال تعالى : {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32] وكالنبوي : (إنّ الحسين مِصباحُ الهدى وسفينةُ النّجاة).
والآخر : (حُسينٌ منّي وأنا من حسين) .
وتوبيخ العقيلة الكبرى (عليها السلام) في خطابها ليزيد (لعنه الله) في قصره بالشام حيث قالت له : (فو الله لن تمحو ذِكرنا ولا تُميت وَحيَنا) .
وما قالته العقيلة (عليها السلام) لابن أخيها الإمام زين العابدين (عليه السلام) عند رؤية جثمان أبيه وجُثث أهل بيته وأصحابه منبوذة بالعراء بلا دفن : (مالي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأخوتي فو الله إنّ هذا لعهدٌ من الله إلى جدّك وأبيك ولقد أخذ الله ميثاق أُناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض وهم معروفون في أهل السماوات إنّهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة والجسوم المضرّجة فيوارونها ويَنصبون بهذا الطفّ عَلَماً لقبر أبيك سيّد الشهداء لا يُدرس أثره ولا يُمحى رسمه على كرور اللّيالي والأيّام وليجهدنّ أئمّة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه فلا يزداد أثره إلاّ علواً ..) .
وهذه المعالِم في الدين : القرآن وشعيرة الحجّ والمسجد الحرام والشعائر الحسينيّة (عليه السلام) هذه المعالِم الأركان عبارة أخرى عن الثَقلين : القرآن والعترة ويمكن الاستدلال على ركنيّة هذه الأمور في الدين الإسلامي بصحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال : (إنّ لله عزّ وجل حُرمات ثلاثاً ليس مثلهنّ شيء : كتابه وهو حكمته ونوره وبيته الذي جعله قِبلة للناس لا يُقبل من أحد توجّهاً إلى غيره وعترة نبيّكم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) .
فهذه هي أثافي الإسلام لا يُفرّط الله سبحانه وتعالى بها قضاءً وقدراً في الإرادة التكوينيّة ولا في الإرادة التشريعيّة .
ومن ثَمّ بنى عدّة من فقهاء الإماميّة على أنّ شعائر الإمام الحسين (عليه السلام) هي في درجة الأهميّة والمِلاك بهذه المثابة كما أنّ قدسيّة وعظمة القرآن مستلزمة لبقاء القرآن حيث إنّ قدسيّته بمكان من الأهميّة والتقدير والتفوّق كذلك الحال في شعائر الإمام الحسين (عليه السلام) التي هي نبراس وسؤدد وهي العلامة الكبرى لولاية أهل البيت (عليهم السلام) .
فهذه وجوه عديدة تُذكر والمتصفّح لبقيّة الروايات في هذا الباب يستطيع أن يستخلص شواهد أخرى بأسانيد لروايات أخرى دالّة على عظم مِلاك الشعائر الحسينيّة .
لذا يرى البعض بأنّ الشعائر الحسينيّة هي من سنخ الواجب الكفائي : كفريضة الحج بحيث لو عُطّل الحج فينبغي تمويله من بيت المال وكزيارة النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فإذا عُطّلت فينبغي على الحاكم أن يتصدّى لإقامتها وكذلك كضرورة إعمار الحَرَمين بالسكّان فإذا خَلت مكّة والمدينة من الساكنين يجب على الوالي أن يُموّل ويبذل من بيت المال لأجل إعمارها بالسّكان .
ويأتي هذا الأمر بحذافيره في فريضة الشعائر الحسينيّة على نحو الواجب الكفائي بحيث لو عُطّلت في ظرف من الظروف فعلى الحاكم الشرعي أن يتحمّل مسؤوليّة إقامتها وتمويل إحيائها بالشكل المناسب من بيت المال .
تفصيلُ الوجه الثالث
مرّ بنا أنّ الهلكة أو التلف أو النقصان ؛ إنّما يصدق إذا ذهبَ التلف هَدراً أو يضيع النقصان سدىً ومن دون أي نتيجة أو ثمرة أمّا إذا كان هناك ثمرة من ذلك التلف والضرر فليس من باب إلقاء النفس في التهلكة .
ولتوضيح الكفرة : خروج المقام تخصّصاً وموضوعاً عن الضرر وذلك بالالتفات إلى ما حُرّر في قاعدة (لا ضرر) من عدم شمولها لجملة من الأبواب والأحكام الأوّليّة : كالجهاد والخمس والزكاة ونحوها ممّا يتراءى في الوهلة الأولى أنّها ضرريّة ؛ فإنّ آيات الجهاد لا يقال إنّها مخصِّصة لعموم : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ) كما لا يُتوهّم شمول النهي لموارد الجهاد وإنّ أدلّة الجهاد مخصِّصة لها لا يصحّ تقرير الظاهر من الدليلين بهذه الصورة ؛ لأنّ المراد من الإلقاء في التهلكة هو الإلقاء سدىً وبدون نتيجة وبلا طائل بخلاف ما إذا كانت هناك غاية فضيليّة مترتّبة على إلقاء النفس في فعل يستوجب معرضيّة التلف .
ويشير إلى ذلك مناظرة النبي يعقوب (عليه السلام) مع أبنائه :
{قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف: 86] فأجابهم : {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86] أي أنّه ردّ على دعواهم في كون شدّة الحزن وطول البكاء هلكة وإنّ تطبيقهم الهلكة عليهما هو بسبب جهلهم وفي الموضوع عنوان آخر وموقف آخر إلاّ أنّهم يجهلون ذلك وهذا الجواب يقتضي أنّ الحزن الشديد والبكاء الطويل وإن أوجبا ابيضاض العينين قابلان لأن يتّصفا بالرجحان والغرض الكمالي ويخرجان بذلك عن الهلكة المذمومة القبيحة .
فعلى كلّ حال : الظاهر أنّ الهلكة وما شابهها إنّما تكون في الموارد التي تذهب فيها النفس سدىً ولا يترتّب عليها نتيجة فضيليّة ولا أثر سامٍ ومن ثَمّ يُتأمّل في التمسّك بالعموم في موارد الغرض الراجح الفضيلي لا سيّما مع ما ذكرنا من حكم العقل من نفي الذمّ عمّن يُلقي نفسه في معرضيّة التلف بداعي وبسبب الفعل الفضيلي أو لفعل فضيلة ما إذ لا يذمّه العقل وتعبير الإمام (عليه السلام) : (لا يكون عندي ملوماً بل يكون به جديراً ..) أي يكون ممدوحاً .
فالهلكة المأخوذ فيها نحواً من القيود العقليّة في ماهيّتها يتأمّل ويمنع صدقها في مثل تلك الموارد فتكون تلك الموارد خارجة تخصّصاً وليس تخصيصاً .
وهذا هو محصّل الوجه الثالث : فإنّ موضوع الضرر والإضرار ـ كما يشير إليه المحقّق النراقي في عوائد الأيّام ـ ليس هو كلّ نقصٍ يحدث في المال أو في البدن أو في العرض بل الذي لا يعوّض ففي المعاوضات الماليّة ـ مثلاً ـ لا يُسمّى النقص مع العوض ضرراً ولا يسمّى مطلق فوات النفع ضرراً وإذا أُطلق عليه فهو من باب المجاز والتوسّع لا من باب الحقيقة بخلاف صرف رأس المال الذاهب سُدى من دون أن يعود عليه بأيّ فائدة فيكون نقصاً مع عدم العوض .
وعلى ضوء ذلك : أُثيرَ في قاعدة الضرر وحرمته أنّ الضرر هل هو النقص مع عدم العوض الدنيوي أم عدم النفع الأخروي ؟ ويُصرّ الشيخ النراقي (رحمه الله) على أنّ الآيات العديدة دالّة على أنّ الخسران والربح أو الانكسار والجبران ليس بلحاظ النشأة الدنيويّة فقط بل بلحاظ النشأة الأُخرويّة أيضاً وإنّه ينبغي لحاظ الجبران الأخروي أو الجبران العقلي وإنّ النقص المتحمّل للغرض المحمود عقلاً لا يُعدّ ضرراً ثُمّ يبني على هذا القول في كثير من الفروع في كتابه (مستند الشيعة) .
وبناءً على ذلك : فالموارد التي بُحثت في المقام ليست نقصاً بلا عوض حيث إنّ الضرر هو النقص من دون جبرٍ وسواء كان الجبر دنيويّاً أو أخرويّاً .. وبعبارةٍ أخرى : إنّ وجه ما قالوا في عدم شمول قاعدة الضرر للضرر الأولي في الأحكام الأوّليّة وشمولها للضرر الطارئ هو أنّ الأحكام الأوّليّة المبنيّة على المشقّة والحرج والضرر هو عوضيّة المِلاك والمصالح الموجودة في متعلّقات تلك الأحكام عن النقص والمشقّة الناجمة منها .
وكذا الحال في الشعائر الحسينيّة ؛ فإنّ ماهيّة الشعيرة الحسينيّة ـ كما هو مستفاد من الروايات المتواترة التي جُمعت في أبواب عديدة ضمن مصادر معتبرة آنفة الذكر ـ متقوّمة بالحزن والتفجّع والحماس كما هي متقوّمة بالمعاني السامية التي نهض من أجلها سيّد الشهداء (عليه السلام) ومن الواضح أنّ الحزن والتفجّع بحماس فيه مكابدة وعناء وعبأ تحمّل روحي لا سيّما وإنّ هذا الصخب الروحي ـ الممتزج بالحماس والمعاني الرافضة للظلم والمسار المنحرف للسلطة والحكم في المسلمين ـ يوجِب بطبيعته قلق وخوف الحكومات فتقوم بممانعة إقامة الشعائر الحسينيّة وإنزال العقوبة بالشيعة في طقوسهم في عاشوراء وشهر محرّم كما حفلَ التاريخ بذلك منذ شهادة الحسين (عليه السلام) إلى يومنا وعصرنا الحاضر بل لم تفتأ المُناصرة بين الحكومات وبين الشيعة على الشعائر الحسينيّة قائمة سواء في زيارته (عليه السلام) أو في المشي إلى زيارته أو في إقامة مراسم العزاء بأشكالها المختلفة أو في غير ذلك من مراسم وصور الشعائر الحسينيّة .
وهذا ممّا يؤكّد أنّ تشريع الشعائر الحسينيّة في الشريعة المقدّسة مبني من أساسه على المخاطرة والمكابدة والمجاهدة ومن ثَمّ يتّضح وجه ما ذهبَ إليه المحقّق الميرزا القمّي في جامع الشتات من إدراج الشعائرالحسينيّة في باب الجهاد وعلى ضوء ذلك يتبيّن عدم شمول قاعدة الضرر لأبواب الشعائر الحسينيّة التي شرّعت في أصلها : كباب الجهاد ونحوه على تحمّل الضرر والمشقّة .
ومن الواضح أنّ النقض الذي يُشاهد في الشعائر الحسينيّة بهذا المقدار هو ليس من الضرر شرعاً بل ولا عند العقلاء : نظير جرح الشخص نفسه لإخراج الدم لأجل تحليله طبيّاً أو مثل الحجامة التي ورد الحثّ عليها من طرق العامّة والخاصّة ورجحانها أمر ثابت وطبيّاً أيضاً .
فالبشر والعقلاء يمارسون العديد من التصرّفات اليسيرة في البدن من دون أن يحرّموها أو يمنعوها .
فتحصّل : أنّ هناك ثلاثة وجوه لدفع توهّم الضرر في الشعائر الحسينيّة بأقسامها .
هذا بالنسبة إلى الجهة السادسة وهي بحث الضرر المترتّب على بعض الشعائر الحسينيّة .
لبسُ السواد حُزناً على الحُسين (عليه السلام) :
بدايةً وردت روايات في باب لباس المصلّي مضمونها : أنّ لبس السواد هو لباس الأعداء ولباس أهل النار ولباس بني العبّاس وفتوى أكثر الفقهاء على كراهة لبس السواد خصوصاً في الصلاة .
وذهبَ بعض المحدّثين الإخباريين إلى الحرمة .
وقد ذكرنا في الفصل الأوّل : أنّ اتّخاذ الشعيرة يكفي فيه الحلّيّة بالمعنى الأعم فعلى افتراض كونه مكروهاً ؛ فإنّ ذلك لا يمنع من اتّخاذه شعيرة للحزن .
حيث إنّ الشعيرة الواردة في الأدلّة ليست حقيقة شرعيّة بل هي حقيقة عُرفيّة فيمكن استحداث واتّخاذ ممارسة مصاديق ورسوم جديدة هذا أوّلاً .
وثانياً : أنّ هذا السواد إنّما يكون مشمولاً للكراهة إذا اتُّخذ لباساً أمّا إذا اتُّخذ شعاراً لإظهار الحزن فهو غير مشمول لتلك الكراهة فمن ثَمّ ذهبَ ـ كما نقلنا في صدر البحث ـ صاحب الحدائق والسيّد اليزدي وعدّة من الفقهاء إلى عدم كراهة لبس السواد حتّى في الصلاة إذا كان لأجل إظهار الشعائر .
(والمسألة محرّرة في كتاب الصلاة) .
فالروايات الناهية عن لبس السواد ليست متعرّضة لاتخاذه كشعار ولأجل إظهار الأسى والحزن نظير ألبِسة بعض الحِرف والمِهن أو المؤسّسات والدوائر فإنّ الهيئة الموحّدة في اللباس لديهم ليست زيّاً لباسيّاً في الحياة المعتادة بل الهيئة الموحّدة من اللون أو الشكل هي شعار يرمز إلى العمل الموحّد والانتساب المعيّن ومن ثَمّ أفتى جمهرة أعلام العصر بجواز لبس الأشخاص الذين يقومون بالشبيه (المسرحيّة لحادثة الطف) زيّ الجنس الآخر وإنّ ذلك لا يندرج في عموم حرمة تشبّه الرجال بالنساء أو العكس ولا يندرج في حرمة لبس الرجال للباس النساء ؛ وذلك لظهور المتعلّق في حكم الحرمة لمَا يُتّخذ لبساً في الحياة العاديّة المعيشيّة .
وثالثاً : المتتبّع للسيرة يقرأ أنّ الأئمّة (عليهم السلام) وأتباعهم ارتَدَوا ولبسوا السواد من أجل إظهار الحزن والتفجّع وذلك في موارد :
1- منها ما في شرح ابن أبي الحديد : أنّ الحسنين (عليهما السلام) لَبسا السواد على أبيهما في الكوفة بعد شهادته .
2- ومنها ما في كتاب المحاسن للبرقي : أنّ الفاطميّات والعقائل ـ بعد رجوعهنّ من كربلاء إلى المدينة ـ لبسنَ السواد والمَسوح وكان زين العابدين (عليه السلام) يطبخ لهم .
فذَكر فيه أنّ زين العابدين كان يطبخ ويُطعم النساء ؛ لأنّهنّ شُغلنَ بإقامة المأتم على الحسين (عليه السلام) ففيه نوع من تقرير المعصوم (عليه السلام) للبس السواد والمسوح .
3- ومنها ما في كتاب إقبال الأعمال للسيّد ابن طاووس في فضيلة يوم الغدير حيث ورد فيه : وهو يوم تنفيس الكرب ويوم لبس الثياب ونزع السواد .
4- ومنها ما في مستدرك الوسائل بسنده عن أبي ظبيان قال : (خرجَ علينا عليّ (عليه السلام) في إزار أصفر وخميصة سوداء) .
وسنذكر بعد قليل المزيد من الأدلّة المنقولة على ذلك .
ورابعاً : أنّ بني العبّاس اتّخذوا السواد شعاراً لهم بادئ الأمر ؛ من أجل إظهار حزنهم على الحسين (عليه السلام) وجعلوه ذريعة للانقضاض على بني أميّة ممّا يدلّ على أنّ لبس السواد كان متّخذاً لإظهار الحزن والتفجّع عند العرف الاجتماعي آنذاك وهو زمان حضور الأئمّة (عليهم السلام) وهذه الظاهرة يمكن التحقّق منها تاريخيّاً وإنّ بني العبّاس اتّخذوا السواد شعاراً لهم ذريعةً وحيلةً في أنّه حُزنٌ على مصاب سيّد الشهداء (عليه السلام) وإنّهم قاموا بعنوان الثأر لسيّد الشهداء وهو شعار الرضا من آل محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ولكن استغلّوا ذلك للتسلّط على رقاب المؤمنين والمسلمين .
إذاً تتعاضد هذه الوجوه وتدفع الريبة في الكراهة وتؤيّد رجحان لبس السواد حُزناً لأجل مصاب أهل البيت (عليهم السلام) .
والآن نُقدّم ـ للقارئ الكريم ـ المزيد من الأدلّة والمؤيّدات على رجحان لبس السواد ؛ لإظهار الحزن والأسى على سادات وأئمّة الورى (عليهم السلام) :
بعضُ الأدلّة المنقولة في لبس السواد
1- لبسُ الحَسنان السواد على أبيهما بعد شهادته (عليه السلام) : عن الأصبغ بن نباتة أنّه قال : دخلتُ مسجد الكوفة بعد قَتل أمير المؤمنين ورأيتُ الحسن والحسين (عليهما السلام) لابسي السواد .
2- وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج : وكان قد خرج الحسن بن علي (عليه السلام) إليهم ـ إلى الناس بعد شهادة أبيه ـ وعليه ثياب سود .
3- لبس نسُاء بني هاشم السواد والمسوح حُزناً على سيّد الشهداء (عليه السلام) كما ورد ذلك في كتاب المحاسن للبرقي بسنده عن عمر بن علي بن الحسين (عليهم السلام) قال : لمّا قُتل الحسين بن علي (عليه السلام) لبسنَ نساء بني هاشم السواد والمسوح وكنّ لا يشتكينَ من حرّ ولا برد وكان علي بن الحسين (عليه السلام) يعمل لهنّ الطعام للمأتم) ووجه الدلالة على الاستحباب وعلى رفع الكراهة : هو أنّ ذلك الفعل كان بإمضائه وتقرير الإمام المعصوم (عليه السلام) إضافةً لدلالة الخبر على أنّ لبس السواد هو من شعار الحزن والعزاء على المفقود العزيز الجليل من قديم الزمان
وسالف العصر والأوان وكما هو المرسوم اليوم في جميع نقاط العالَم .
4- وفي إقبال الأعمال نقلاً عن كتاب (النشر والطيّ) بإسناده عن الرضا (عليه السلام) أنّه قال ـ في حديث في فضيلة يوم الغدير ـ : (وهو يوم تنفيس الكرب ويوم لبس الثياب ونزع السواد) .
5- ومثلها رويَ في مستدرك الوسائل عن كتاب المحتضر للحسن بن سليمان الحلّي بإسناده عن أحمد بن إسحاق عن الإمام العسكري (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في فضيلة يوم التاسع من ربيع الأول وأساميه ـ إلى أن قال ـ قال (عليه السلام) : (ويوم نزع السواد) .
6- ما جرى في الشام على قافلة سيّد الشهداء (عليه السلام) بعدما أذِن لهم يزيد بالرجوع وطلبوا منه النوح على الحسين (عليه السلام) : فلم تبقَ هاشميّة ولا قريشيّة إلاّ ولَبست السواد على الحسين وندبوه .
7- سكينة بنت الحسين ترى الزهراء (عليها السلام) في المنام وهي تندب الحسين وعليها ثياب سود يذكر ذلك المحقّق النوري في المستدرك حيث تقول سكينة (عليها السلام) : (... فإذا بخمس نسوة قد عظّم الله خلقتهنّ وزاد في نورهنّ وبينهنّ امرأة عظيمة الخلقة ناشرة شعرها وعليها ثياب سود وبيدها قميص مضمّخ بالدم إلى أن ذكرت أنّها كانت فاطمة الزهراء (عليها السلام) .
8- وفي مقتل أبي مخنف عندما أخبر نعمان بن بشير بقتل الحسين (عليه السلام) فلم يبقَ في المدينة مخدّرة إلاّ وبرزت من خدرها ولبسوا السواد وصاروا يدعون بالويل والثبور .
9- وروى في الدعائم عن جعفر بن محمد (عليه السلام) أنّه قال : (لا تلبس الحاد ـ المرأة في حِدادها على زوجها ـ ثياباً مصبّغة ولا تكتحل ولا تطيّب ولا تزيّن حتّى تنقضي عدّتها ولا بأس أن تلبس ثوباً مصبوغاً بسواد) وقد أفتى بمضمونه الشيخ في المبسوط والمحقّق في الشرائع في حداد الزوجة وفي الإيضاح .
10- وروى الصفّار في بصائر الدرجات عن البزنطي عن أبان بن عثمان عن عيسى بن عبد الله وثابت عن حنظلة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : (خطبَ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يوماً بعد أن صلّى الفجر في المسجد وعليه قميصة سوداء) وذكرَ (عليه السلام) أنّه توفّي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في ذلك اليوم .
وفي سيرة ابن هشام : كان على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قميصة سوداء حين اشتدّ به وجعه .
11- وروى الكليني ، والدعائم بسنده عن سليمان بن راشد عن أبيه قال : رأيتُ عليّ بن الحسين (عليه السلام) وعليه درّاعة سوداء وطيلسان أزرق .
12- وفي عيون الأخبار وفنون الآثار لعماد الدين إدريس القريشي عن أبي نعيم بإسناده عن أمّ سلمة رضوان الله عليها أنّها لمّا بلغها مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) ضربت قبّة سوداء في مسجد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ولبست السواد .
13- وروى المجلسي في البحار فيما جرى على أهل البيت (عليهم السلام) بعد واقعة كربلاء إلى أن قال (عليه السلام) :(ثُمّ قال الوصيف : يا سكينة اخفضي صوتكِ فقد أبكيتِ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ثُمّ أخذَ الوصيف بيدي فأدخلني القصر فإذا بخمس نسوة قد عظّم الله تعإلى خلقتهنّ وزاد في نورهنّ وبينهنّ امرأة عظيمة الخلقة ناشرة شعرها وعليها ثياب سود بيدها قميص مضمّخ بالدم وإذا قامت يقمنَ معها وإذا جلست جَلسن معها فقلتُ للوصيف : ما هؤلاء النسوة اللاتي قد عظّم الله خلقتهنّ ؟
فقال : يا سكينة هذه حوّاء أمّ البشر وهذه مريم بنت عمران وهذه خديجة بنت خويلد وهذه هاجر وهذه سارة وهذه التي بيدها القميص المضمّخ ـ وإذا قامت يقمن معها وإذا جلست يجلسن معها ـ هي جدّتك فاطمة الزهراء عليها السلام) الحديث .
14- وروى الشيخ في الغَيبة بسنده إلى كامل بن إبراهيم أنّه دخلَ على أبي محمّد الحسن العسكري (عليه السلام) فنظرَ إلى ثياب بياض ناعمة قال : فقلتُ في نفسي : وليّ الله وحجّته يلبس الناعم من الثياب ويأمرنا نحن بمواساة الإخوان وينهانا عن لبس مثله ؟
فقال (عليه السلام) متبسّماً : (يا كامل وحسرَ عن ذراعيه فإذا مسح أسود خشن على جلده فقال : هذا لله وهذا لكم) .
15- في كامل الزيارات بسنده : أنّ المَلَك الذي جاء إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وأخبره بقتل الحسين بن علي (عليه السلام) كان مَلَك البحار : وذلك أنّ مَلَكاً من ملائكة الفردوس نزلَ على البحر فنشر أجنحته عليها ثُمّ صاحَ صيحةً وقال : (يا أهل البحار ألبسوا أثواب الحزن فإنّ فرخ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) مذبوح ...) .
ضرورةُ لَعن أعداء الدِين :
هناك جهة لاحقة أخرى وهي : قضيّة لَعن أعداء الدين الواردة في بعض الزيارات والأدعية والمأثور من الأدلّة والروايات وإدراجها ضمن الخطابة الحسينيّة أو الشِعر أو النثر إذ يثير البعض تساؤلات حول هذه الظاهرة .
وإنّ السبّ واللعن لا يناسب أخلاق المسلم فضلاً عن المؤمن ويكشف عن الحقد وهو من الأخلاق الذميمة وليس من الأخلاق الإسلاميّة وهو انفعال عاطفي حادّ أو حماسي لا تدبّر فيه ولا تفكّر نظير بعض الإشكالات التي مرّت في البكاء وقد وردَ في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه كان يوصي أصحابه أن (لا تكونوا سبّابين) .
ولتحرير حقيقة الحال في هذه الإثارات لابدّ من الالتفات إلى أنّ اللعن ليس مطلقاً هو السب بل ينطبق على اللَعن الابتدائي من دون موجب للّعن فيكون سبّاً نظير ما يرتكبه بعض عوام الناس وغير الملتزمين وأمّا إذا دُعي على شخص بما يستحقّ الدعاء عليه ونُسب له ما يوجب له أن يُذكر به فهذا لا يُعدّ سبّاً بل هو إظهار لإنكار المنكر ويُعدّ فضيلة ولا يعدّ سبّاً ؛ وإنّما هو نوع من الحالة الطبيعيّة النفسيّة والاجتماعيّة في الفطرة الإنسانيّة أو في مجموع المجتمع إذ هو تنفّر من المنكر ورفض القبيح فهل تقبيح القبيح يُعتبر سبّاً ؟
وبعبارةٍ أخرى : أنّ من مقتضيات الفطرة الإلهيّة ـ التي فطرَ الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ـ: هو تقبيح القبيح والنفرة منه وتحسين الحسن والانجذاب إليه وهذه الفطرة الإنسانيّة والعقليّة تُحاذي فريضة وعقيدة التولّي والتبرّي التولّي لأولياء الله تعإلى والتبرّي من أعدائه حيث أمرَ بهما في الكثير من الآيات الكريمة كقوله تعإلى : {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19]
وقوله تعإلى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الممتحنة: 13]
وقوله تعإلى : {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22].
وقوله تعإلى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} [الممتحنة: 4]
وقوله تعإلى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1].
وغيرها من آيات التولّي والتبرّي .
وقد قال تعإلى : {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]
وقال تعإلى : {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57].
ولا يخفى على اللبيب أنّ الحذر من اللعن لأعداء الله ورسوله هو في الحقيقة تذويب لظاهرة التوليّ والتبرّي ومسخ لفطرة الحُسن والقُبح ؛ لتعود الفطرة والقلب منكوسَين قبال الباطل والضلال فهذا التحسّس والحذر من اللعن ينطوي على التنكّر لهدى عترة النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والميل لضلال مخالفيهم ومن الخطورة البالغة تمكن فيما إذا انتكس القلب ودبّ فيه المرض {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد: 29] لعترة النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) .
نعم تقبيح شخص بلا موجِب ومن دون عمل صدر منه يقتضي ذلك يُعتبر سبّاً أمّا إذا صدرَ منه ما هو قبيح واستنكرنا ذلك القبيح فلا يُعد فعلنا سبّاً وليس بوقيعة بل هو حالة طبيعة الفطرة وهي إنكار للمنكر وإنّ إنكار المنكر يُعتبر أمراً صحّيّاً ويدلّ على بقاء سلامة فطرة وتديّن الإنسان والتزامه باعتقاداته وأمّا استحسان المنكر وعدم إنكاره ـ ولو قلباً وهو أضعف الإيمان ـ فأمر منبوذ شرعاً وعقلاً ويدلّ على تبدّل لطبيعة الفطرة .
فتقبيح القبيح ليس بسب أوَ ليس ينبغي أن نتخلّق بالأخلاق والصفات الإلهيّة ؟ لاحظ مادّة اللعن في القرآن الكريم وردت مادّة اللعن في القرآن الكريم ما يقرب من الأربعين مورداً والنبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إذا أريدَ مدحه يوصف بأنّ خُلقه كان خُلق القرآن فأفضل ما يتخلّق به الإنسان هو أخلاق القرآن وأخلاق الله عزّ وجل هذا من جهة ومن جهةٍ أخرى أنّ النهي عن المنكر يُعتبر من الفرائض الركنيّة في أبواب الفقه وأدنى مراتبه هو الإنكار القلبي والبراءة القلبيّة من المنكر والمرتبة الوسطى هو الإنكار اللساني وهذا الحكم يتعلّق بموضوعه وهو المنكر مطلقاً سواء كان المنكر السابق أم المنكر الحالي وهذا يستلزم البراءة من جميع أعداء الله على مرّ الدهور والعصور قلباً ولساناً ومن أوضح مصاديق إنكار المنكر هو اللعن لأعداء الدين والمناوئين للأنبياء والأولياء والصالحين .
اللعنُ من الآيات القرآنيّة
ومن الآيات في ذلك :
ـ {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57] .
هذه الآية هي سنّة من الله على مَن يستحقّ اللعن من جهة ومن جهة أخرى هي واردة أيضاً فيما نحن فيه في الشعائر الحسينيّة حيث إنّ قَتَلة الحسين (عليه السلام) آذوا الله ورسوله كما ورد في نصوص الفريقين .
ـ {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159].
ويحثّ الله عزّ وجل على لعنهم .
ـ {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] .
وهذه نماذج يسيرة وإلاّ فالآيات القرآنيّة كثيرة في موضوع اللعن .
وهناك مثالاً قرآنيّاً لعدم التولّي : ففي خطاب لإبليس بعد أن أبى أن يتّبع آدم : {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] هذه الآية هي رمز لعدم الموالاة لدين الله ولعدم اتّباع حجّة الله وإبليس كفره ليس كفر إنكار لله عزّ وجل ولا إنكاراً منه للمعاد ؛ إنّما كفره بسبب عدم السجود فلم يؤنّبه الله بأنّك لم تُقرّ بخليقتي بل كلّ السور التي تتعرّض لهذه الواقعة فيها ذمّ وتأنيب الله لإبليس على عدم السجود ولعدم الإذعان بإمامة وخلافة وحجيّة آدم (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ ...) .
فكفرُ إبليس : كفر عدم إقرار بالإمامة وعدم اعتراف بالحجّة الإلهيّة والواقعة القرآنيّة في بدء الخليقة رمز للإمامة كما أُشير إلى ذلك في الرواية الواردة في تفسير البرهان وقد شرحها أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخطبة القاصعة أنّ هذه الواقعة كلّها لأجل بيان أمور وأسرار عجيبة يستعرضها القرآن في سبع سِور .
{قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75] : تدلّ على عدم الخضوع وعلى عدم الموالاة والاتّباع) {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص: 76 - 78] والذي لا يتولّى وليّ الله له لعنة خاصّة أمّا مَن يُعادي وليّ الله وخليفة الله وحجّة الله ؛ فإنّ الآية الشريفة تُقرّر اللعن الإلهي عليه وطرده من رحمة الله .
وفي سورة الإسراء مثالاً آخر : (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ ...) هذه الرؤية في تفاسير العامّة الروائيّة أيضاً وردَ أنّها رؤية مَن ينزو على منبر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لكن بألفاظ مختلفة والمتتبّع فيها يصل إلى أنّ مضمونها هو نفس ما ذكرتهُ روايات الخاصّة في تفسير الآية وهي الرؤيا التي انزعجَ منها النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في اغتصاب الخلافة .
(إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ) يعني : أحاط بالأحداث والوقائع التي تمرّ على الناس والتي ترتبط بأمورهم وبشؤونهم وبمستقبل أفعالهم .
طبيعةُ القرآن : هو بيان الحقيقة من زاوية أو عن طريق الإشارة كي يسلم القرآن من التحريف ولو كان القرآن يتضمّن التصريح أو قريب من التصريح لحُرِّف وبدِّل من أوّل يوم لكنّ القرآن الكريم يكنّي ويشير إلى حقيقة قد لا يلتفت لها إلاّ ذوو الألباب {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] .
ـ {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269].
ـ {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].
ـ {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا } [الإسراء: 60] .
يدلّ على أنّ الشجرة وفتنة الناس يعني أمر يُفتتن به الناس فالأمر مرتبط بشأن اجتماعي وسياسي فيظهر من نفس سياق الآية توقّع فتنة .
وهذه الفتنة للناس إشارة إلى السقيفة وما حصل فيها ثُمّ إنّ آية (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ...) هي سلالة أغصان وفروع وهو مُلك بني أميّة تبدأ هذه الشجرة الملعونة بالنموّ على تربة وأساس تلك الفتنة.
تفسير هذه الشجرة الملعونة ليست شجرة نباتيّة بل (وَنُخَوِّفُهُمْ..) و(هم) خطاب للعقاب {فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60] .
نفس الألفاظ إذا جُمعت في نفس السياق فإنّنا نحصل على صورة واضحة لكن دَأب القرآن هو إعطاء الإشارات .
فهذه وغيرها من الآيات العديدة في القرآن التي تدلّ على وجود اللعن وجوازه على أعداء الدين.